فصل: فصل:مشتمل على وجوه الاختلاف مسائله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل:مشتمل على وجوه الاختلاف مسائله:

9238- إذا قال الرجل لامرأتيه: إحداكما طالق، وكان نوى واحدةً منهما بقلبه، فلما طالبناه بالبيان، فإن عيّن واحدة منهما تعينت، فإن لم تخاصم الأخرى، فلا تعرّض لهما ولا تبقى طَلِبةٌ من جهة السّلطان.
وإن قالت الأخرى: نويتني وعنيتني، فالخصومة تدار بينهما: فيحلف الزوج بالله لم ينوها ولم يعنها، فإن حلف، انقطعت الخصومة، ويمينه على البت، فإنه ينفي فعلَ نفسه، فإن نكل، رُدَّت اليمين على المرأة، فإن حلفت، حكمنا بوقوع الطلاق عليها ظاهراً، لأجل يمينها، وقد نُثبت طلاق الأولى بإقراره.
وإن نكلت عن يمين الردّ، كان نكولها بمثابة حَلِفهِ.
ولو قال الزوج لما طالبناه بالبيان: قد كنت نويت وعنيت إحداكما ثم نسيت، فإن صدقناه، فلا طَلِبةَ، فإن المطالبة بالتعيين تأتي من جهتهما، فإذا رضيتا بالمقام تحت الاحتباس، فلا تعرض للسلطان. نعم، يُمنع من مُلابستهما جميعاًً، ومن مُلابسة كل واحدة منهما.
فأما إذا ادعى الرجل النسيان، فكذبتاه، فإذا سبقت واحدة وقالت: عنيتني، فقال في جوابها: لا أدري، فلا يقبل ذلك منه. ولو قال: حلّفوني بالله: لا أدري، لم نكتف بهذه اليمين منه، فإن المحلوف عليه فعله، فلتكن يمينه جازمةً، ولو فتحنا هذا الباب، لما توجهت يمين جازمة على من يُدّعى عليه استقراضٌ، أو إتلافٌ، أو قتلٌ أو غيرُها.
فإن قال الزوج: أتجوّزون صدقي؟ قلنا: نعم، فلو قال: فلم تطالبونني باليمين الجازمة، وأنا أمنحكم يميناً جازمةً في أني نسيت؟ قلنا: لا سبيل إلى إجابتك.
ولكن وراء هذا سرّ، وهو أنا لا نقضي بنكولك عن اليمين المعروضة عليك، بل نقول: اليمين مردودة على المدّعية، فإن حلفت، وقع القضاء بيمين الرد، وهي حجة جازمةٌ في الخصومة نازلةٌ في طريقةٍ منزلةَ البيّنة، وفي طريقةٍ منزلةَ الإقرار.
9239- ومما نذكره على الاتصال بهذا أنه لو كان قال: إن كان هذا الطائر غراباً فزينبُ طالق، وإن لم يكن غراباً، فعمرةُ طالق، ثم فرضت الدعوى منهما أو من إحداهما وكانتا لا تدعيان طلاقاً إلا من هذه الجهة، فلو قال: قلت ما قلت من تعليق الطلاق، وأنا في كِنٍّ والليلُ ملقٍ سُودَ أكنافه على الآفاق، وقد مرّ الطائر، فكيف أطلع على جنسه، فاقنعوا مني بيمينٍ على نفي العلم؛ إذ لا خلاف أن المحلوف عليه لو كان أمراً أنفيه من فعل غيري، لكنت أحلف على نفي علمي به، مثل أني لو قلت: إن دخلتِ الدار، فأنت طالق، ثم ادّعت المرأة الدخول، كان يكتفى مني بالحلف على نفي العلم بالدخول؛ من جهة أن إحاطة العلم بنفي فعل الغير يعسر، وإذا كان يقع الاكتفاء بنفي العلم لتعذر الإحاطة، فإحاطة العلم بجنس الطائر في الصورة التي ذكرناها أعسر، والدَّرك فيه أبعد.
قلنا: إن سلمت المرأتان الصورة التي ذكرها الزوج، فقد تحقق أن العلم منه بجنس الطائر غيرُ ممكن، فهذا اعتراف منهما بأنه ليس يعلم حقيقة الحال. وإن اعترفتا كذلك، فلا يتصوّر من واحدة منهما دعوى منضبطة عليه. وحكم هذه الصورة ما تقدم من أنهم إذا اعترفوا بالإشكال، تُرك الأمر مبهماً، وانقطعت طَلِبةُ البيان، ويلزمه أن يَرُد عليهما حقوقَ النكاح.
وإن ادعى الزوج حالةً لا يتصوّر معها الإحاطة بجنس الطائر، وأنكرت المرأتان ذلك، وادعت كل واحدة منهما على البت أنه طلقها، فلا يُكتفى منه بادعاء نفي العلم، وإن أبدى الجهلَ، جُعل ذلك إنكاراً منه، وعُرضت عليه اليمين الجازمة، فإن تمادى على ادعاء الجهل، جُعل ذلك بمثابة النكول عن اليمين، وتردّ اليمين على المدعية، فإن قال الزوج: إذا كان لا يمتنع صدقي في دعوى الجهالة، فكيف تستجيزون إثبات الطلاق؟ قلنا: لسنا نثبت الطلاق بنكولك عن اليمين، وإنما أثبتناه بيمينها الجازمة في إثبات الطلاق، ولكن سبيل الوصول إلى يمين الرد في ترتيب الخصومة ما ذكرناه.
وهذا قدمنا تقديره فيه إذا قال: إحداكما طالق، وكان قد عيّن بقلبه إحداهما، ثم زعم أنه نسي من نواها.
9240- ولو ذكر في مجلس الحكم صورة الحال، وكانت المرأتان لا تدعيان الطلاق إلا من جهة التعليق في مسألة الطائر، فتقدمت امرأة كان علق طلاقها بكون الطائر غراباً، فقد ادعت أن الطائر الذي علق الطلاق به كان غراباً، فهذه الدعوى يجب أن يجيب عنها؛ فإن التنازع محصور في صفة الطائر.
فالذي أراه أن الزوج ينفي كونه غراباً جزماً؛ فإن الاطلاع على جنس الطائر ممكن، وهو من قبيل الإثبات الذي حقه أن يحلف عليه جزماً، فإن ادعى الجهل، جُعل منكراً ثم ناكلاً، وتُعرض اليمين الجازمة على المدّعية. وإن كان الشيء في جنسه مما يفرض الاطلاع عليه، فلا ننظر إلى تفاصيل الصور، وهذا كما أنا إذا جعلنا اليمين على نفي فعل الغير على نفي العلم، فلا نغيّر هذا الأصل بتصوّر الإحاطة بالنفي في بعض الصّور.
فإن قيل: نفي كون الطائر غراباً ليس بإثبات. قلنا: كم من نفي يجب أن يكون اليمين عليه جزماً، وإنما تكون اليمين على نفي فعل الغير على نفي العلم فحسب، ونفي صفةٍ في طائر كإثبات صفة فيه، وسبيل العلم في البابين على نسق واحدٍ.
فهذا ما أراه في ذلك.
وبالجملة ما يفرض من إشكالٍ في ذلك بمثابة ما لو قال الزّوج: نسيت ما نويت، ولا ينفع الزوج ذلك، وإن كان ما يدّعيه ممكناً.
فهذا منتهى الغرض في ذلك.
9241- ومما نذكره في الاختلاف أنه لو وقع الإبهام بين الطلاق والعَتاق، كما صورناه في جاريةٍ وزوجةٍ، فإن قال: حَنِثْتُ في العتق عَتَقت، وبقيت الدعوى للمرأة؛ فإن حلف الزوج، أنه لم يحنَث في طلاقها، انفصلت الخصومة، وإن نكل، رُدت اليمين على المرأة. ولو قال: لا أدري، لم نقنع منه بهذا، كما تقدّم ذكره.
ولو كان علق عتق عبيدٍ وطلاقَ نسوةٍ على الإبهام، فادّعت واحدة من النساء الحِنْث، فنكل الزوج، وحلفت، ثبت طلاقُها، ولم يثبت طلاقُ صواحباتها، وإن كان اليمين بطلاقهن والحِنْث لا يتبعّض، ولكن إنما ثبت الحنث باليمين ويمينُ واحدةٍ لا يثبت في حق الغير، وهذا كما لو مات رجل وخلّف ابنين، وكان له على إنسانٍ دين، فلو أقام أحدهما شاهداً وحلف معه ثبتت حصته من الدّين، ولم تثبت حصة أخيه، وهو على دعواه، ولو أقام أحد الابنين شاهدين، ثبت جميع الدّين في حق الأخوين، وهذا واضح.
ولو قال الزوج: إن دخلتُ الدار فأنتن طوالق، فادعت المرأة أنه دخل الدار وعرضنا اليمين عليه فنكل، فحلفت تلك المدعية، طلقت، ولم تطلق صواحباتها؛ لما ذكرناه.
وقد يعترض للإنسان أن الطلاق يتعلق بحق الله، ولكن حق الله لا يثبت في حق الغير بيمين الغير أيضاًً، وإذا كانت الدعوى تتوجه والخصومة تَتَرتّبُ تحليفاً ورداً، فالأصل الثابت الذي لا مراء فيه ما ذكرناه من أن اليمين لا تُثبت شيئاً في حق غير الحالف.
9242- ومن بقية الكلام في الاختلاف أن الذي أبهم الطلاق إذا مات، فقد ذكرنا أن الوارث هل يقوم مقامه في البيان، فإن قلنا: لا يُقبل بيانه، فلا تتوجه عليه الدّعوى؛ فإنه بمثابة الأجنبي في القول الذي نفرّع عليه.
وإن قلنا: إن بيانه مقبولٌ، فإن كان لا يتعلق به حقّ وغرض، ورأينا قبولَ قوله في بعض الطرق، وذلك مثل أن يموت الزوج ويخلّفَ زوجتين قد أبهم بينهما طلقةً مُبينةً، فلو امتنع عن البيان، فلا تتوجه عليه الدعوى منهما؛ فإنه لا يتعلق بعين واحدةٍ منهما غرضه بوجهٍ.
وإن كانت المسألة مفروضةً حيث يتعلق الأمر بغرضه مثل أن يكون الإبهام في عتق عبدين، فتتوجّه الدّعوى على الوارث، ثم إن ادعى أحدهما أن أباه حَنِث، فإنه يحلف على نفي العلم: "بالله لا يعلم أن أباه حَنِث" ثم لا يخفى تمام الخصومة، لو فرض النكول والردّ.
فهذا تمام المراد، ثم ما لم نذكره لا يخفى قياسه، فلم نر المزيد على هذا.
وإذا كان الإبهام بين العتق والطلاق، ومات المبهِم وقلنا: تعيين الوارث مقبول، فإذا زعم أنه كان حَنِثَ في الطلاق، قُبل قوله، وللمرأة أن تحلِّفه، فيحلف على الإثبات أن أباه حَنِث في الطلاق.
ثم للعبد أن يحلّفه، فيحلف بالله: لا يعلم أن أباه حَنِث في عتقه؛ فإن اليمين في حقه متعلقة بنفي فعل الغير، وهذا جارٍ على الأصل الذي مهدّناه.
وقد نجز ما أردناه في ذلك والله المستعان.
فروع متعلقة بالباب:
9243- إذا أشار الرجل إلى امرأته وأجنبية، وقال: إحداكما طالق، ثم ادّعى أنه أراد بذلك الأجنبية، فهل يصدق في ذلك؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب الأكثرون إلى أنه يصدّق فيما يدعيه؛ فإن قوله إحداكما صريح في الترديد بينهما.
ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق على زوجته، فإنه أرسل الطلاق بين أجنبية ليست محلاً لطلاقه، وبين زوجته، فينزل الطلاق على التي هي محل الطلاق، ويلغو موجبُ الترديد، وهو كما لو أوصى بطبلٍ من طبوله، وله طبل حربٍ وطبولُ لهو، فالوصية تنزل على طبل الحرب؛ فإنه محل الوصية الصّحيحة، والطلاق أولى بالنفوذ من الوصية.
ومما ذكره الأصحاب متصلاً بهذا أن الزوج إذا قال: زينب طالق، وكانت زوجته تسمى زينب ثم قال: أردت بذلك جارتي وهي زينب، فالأكثرون من الأصحاب صاروا إلى أن الطلاق واقع، ولا يُقبل حمله إيّاه على الجارة؛ فإن الطلاق لا يردّ، ولا يحمل على اللغو.
ومن أصحابنا من قال: يقبل ذلك؛ فإن لفظه محتمل له، والأصل بقاء النكاح ومال إلى اختيار ذلك القاضي، وهذا التردد في الظاهر.
فأما من أنكر قبول قوله ظاهراً لا يُنكر أن الطلاق لا يقع باطناًً بينه وبين الله إذا صُدِّق.
والجهل لا يمنع وقوعَ الطلاق بلا خلاف، فلو كان نسي أن له زوجة، فقال: زوجتي طالق، طلقت.
ولو أشار إلى عبدٍ لأبيه وقال: أعتقتك، ثم تبين له أنه كان قال هذا وأبوه قد مات والعبد رجع إليه ميراثاً، فالعتق نافذ.
فرع:
9244- إذا أبهم طلقة مُبينة بين امرأتين، فيلزمه البيان أو التعيين، كما مضى تفصيله، ولو أبهم طلقةً رجعيّة بينهما، فهل يلزمه أن يُبيِّن أو يعيّن، فعلى وجهين:
أحدهما: لا يلزمه؛ فإن الرجعيّة زوجة.
والثاني: يلزمه؛ فإنها محرّمة، والحيلولة مستحقة بالطلاق الرجعي، والأصح الأول. والله أعلم.
فرع:
9245- إذا طار طائر، فقال زيد: إن كان غراباً فعبدي حر، وقال عمرو: إن لم يكن غراباً فعبدي حر، فلا نحكم بعتق واحد منهما، كما تقدم ذكره، فلو اشترى أحدهما عبد الثاني، فالشراء صحيح، ولكن إذا اجتمع العبدان في ملكه؛ فلا شك أن أحدهما في معلوم الله حر، وإنما كنا لا نحكم بهذا لتعدد المالكَيْن وتعذر جمع الخطاب وهما متفرقان، فإذا اجتمع العبدان، في ملكٍ واحد منهما، فهما في حقه مجتمعان الآن، وهو مخاطب واحد.
وقد ذكر صاحب التقريب وجهين بعد التنبيه لما ذكرناه:
أحدهما: أنهما إذا اجتمعا في يده وتصرّفه، فيوقف عنهما جميعاًً إلى أن يتبين الأمر، ويصير بمثابة ما لو كان العبدان جميعاًً في ملكه أو لا، فقال: إن كان هذا الطائر غراباً، فعبدي سالم حرّ، وإن لم يكن غراباً، فعبدي غانم حرّ، وهوى الطائر وأشكل الأمر، وهذا أصح الوجهين، وقد قدّمت ذكره.
والوجه الثاني- أن يده لا تُقبض عن التصرّف في عبده الأوّل؛ لأن الحكم فيه هكذا جرى، فلا نغير الحكم المتقدم، وإنما نمنعه من التصرف في عبده الذي اشتراه، فإن هذا عبد جديد، فنجدّد فيه حكم الوقف، ثم لا نقطع في العبد الثاني بالحرية، ولكن نقفه عن التصرّف فيه إلى أن يبين حقيقة الأمر، والوجه الأول أقيس.
والله أعلم.

.باب: الهدم:

9246- إذا طلق الرجل الحرّ زوجته ثلاثاً أو استوفى العبدُ ما يملك، فطلّق زوجته طلقتين، حرمت الزوجة وحرم نكاحُها، ثم يمتدّ تحريم النكاح إلى التحليل، كما قدمنا وصفه في الأبواب المتقدمة، وقد أطلق الفقهاء أن وطء الزوج المحلِّل يهدم الطلقات الثلاث، وترجمة الباب توافق هذا، وهذا فيه استعارة وتجوّز؛ فإن الطلاق بعد وقوعه لا يتصور هدمه، ولكن الطلاق الواحد والاثنين في حق الحر لا يحرِّم عقدَ النكاح، بل إن كان رجعياً، لم يخف حكمه، وإن كان مُبيناً، فلابد من نكاح جديد، وإن استوفى ما يملك من الطلاق، تعلّق باستيفائه تحريمُ النكاح، ثم هو في التوقيف ووضع الشرع ممتد إلى اتفاق التحليل والتخلّي من الزوج المحلل، ثم يقال: انقضت الطلقات الثلاث، وانتهى حكمها، وصارت المرأة إذا نكحها الأول بمثابة أجنبية ينكحها الرجل ابتداء، فيملك عليها ثلاث طلقات.
ثم أطلق الفقهاء الهدم وعنَوْا به أنها تعود بثلاث طلقات، ولم يُريدوا أن تلك الطلقات الواقعة تُهدَم بعد وقوعها وتزول؛ إذ لو زالت، لعادت المرأة منكوحةَ الأول من غير احتياج إلى نكاح جديد.
ولو طلق امرأته طلقةً أو طلقتين، ولم يستوف العددَ، فانسرحت المرأة ونكحت وأصيبت، ثم تخلّت، ونكحها الأول؛ فإنها تعود إلى الأول ببقية الطلاق عندنا وعند محمد، وقال أبو حنيفة: إذا نكحت ووطئها الزّوج، ثم تخلّت عن النكاح والعدة ونكحها الأول عادت إليه بثلاث طلقات، والمسألة مشهورة في الخلاف.
وقد نجزت المسائل المنصوصة في (السواد) وما يتصل بها.
وهذا الكتاب من بين الكتب كثير الفروع والشعب؛ فإنه مبني على الألفاظ، ولا نهاية لما ينطق الناطقون به تنجيزاً وتعليقاً، وينضم إلى دَرْك الصيغ أمورٌ تتعلق بالعادات، والحاجة تَمس إلى الإحاطة بحقيقتها ضمّاً إلى دَرْك الألفاظ، ونحن لا نألوا جهداً في الإتيان بها والتنبيه على ضوابطَ فيها، وتقرير أصولٍ تهدي إلى المراشد فيما نذكره، وفيما ينسلّ عن ذكرنا وحفظنا، ونحرص أن نُجري الفروع مصنفةً، ونذكرها صنفاً صنفاً وما لا يدخل تحت ضبط التنويع نجمعه في مسائل شتى، وإلى الله الرغبة في التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق.
فروع في تعليق الطلاق بالحيض:
9247- إذا قال لامرأته: إن حضت، فأنت طالق، اقتضى ذلك حيضةً مستأنفة، حتى لو كانت في خلال حيض، لم تطلق في الحال؛ حتى تطهر ثم تحيض، والسبب فيه أن الشرط يستدعي استئنافاً، وبقية الشيء لا تكون استئنافاً فيه لساناً وعرفاً، حتى لو قال لامرأته والثمار مُدركةٌ إذا أدركت الثمار، فأنت طالق، اقتضى ذلك إدراكاً مستأنفاً يأتي في العام القابل.
ثم إذا رأت دماً مستأنفاً، لم نحكم بوقوع الطلاق، وإن كان على ترتيب الأدوار؛ فإنه قد ينقطع دون أقل الحيض ويكون دمَ فسادٍ، والطلاق معلق بالحيض، فإذا استمر الدم المسبوق بطهرٍ كامل يوماً وليلةً، تبينا أنه دم حيضٍ، ثم الطلاق يتبين وقوعه مستنداً إلى أول جزءٍ من الدّم؛ فإنّا تحققنا آخراً أن ما رأته أولاً دمُ حيضٍ وتوقُّفنا، كان لنتبين.
ويعترض في ذلك أنها إذا رأت الدّم، فهل يجب اجتنابها في الاستمتاع ناجزاً؟ هذا بمثابة ما لو قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، وقد ذكرنا في ذلك بياناً كافياً.
9248- ثم إذا قالت المرأة-وقد علّق الطلاق بحيضها-: "قد حضت"، فالقول قولها مع يمينها، ولو كذّبها الزوج، فلا معتبر بتكذيبه.
والذي عليه التعويل في ذلك يبينُ بتقسيمٍ: فإن علق الرجل طلاق امرأته بأمرٍ يظهر ويُتَصور إثباته بالبينة مثل أن يقول: إن دخلت الدار، فأنت طالق،. فإذا زعمت أنها دخلت، وأنكر الزوج دخولها، لم نصدقها، ولم نقض بوقوع الطلاق حتى يَثْبت الدخول بالبينة.
ولو قال: إن حضتِ، فأنت طالق، فقالت: "حضتُ"، صُدّقت مع يمينها، وقال الفقهاء: النساء مؤتمنات في أرحامهن، وزاد زائدون بياناً وقالوا: لا يتبين الحيض إلا من جهتها؛ فإن الدّم في عينه، وإن رُئي، فلا يمكن القضاء عليه بكونه حيضاً، ما لم تخبر بترتيبٍ في أدوارها، يقتضي ذلك كونَ ما تراه حيضاًً.
فهذا ما ذكره الأصحاب ووراءه كلام يأتي الشرح عليه، إن شاء الله.
ولو قال لامرأته: إن زنيتِ، فأنت طالق، فزعمت أنها زنت، فالمذهب الذي عليه التعويل أنا لا نحكم بوقوع الطلاق؛ من جهة أن الزنا يفرض الاطلاع عليه لا من جهتها.
وقال بعض أصحابنا كل عملٍ خفيٍّ لا يفرض الاطلاع عليه، فهي مصدقة فيه، والزّنا منه، وهذا حائد عن التحقيق غيرُ معدودٍ من المذهب.
ولو قال الرجل لامرأته: إن أضمرتِ بُغضي، فأنت طالق، فزعمت أنها أضمرت، وقع الطلاق، وإن اتُّهمت، حُلّفت؛ إذ لا مطّلع على مكنون الضمائر إلا من جهات أصحابها، فلا وجه إلا أن نصدقها، وهذا أصل جارٍ في القصود والنيات المعتبرة.
9249- وما ذكره الأصحاب من الفرق بين الأفعال التي يتطرق إليها إمكان الإثبات وبين ما لا يُعلم إلا من جهة المرأة يكاد يوافق مذهب مالك في ادعاء المودَع التلف، فإنه قال: إن ادعى سبباً جلياً يظهر مثله ويتأتى في الغالب الإشهاد عليه، فلا يقبل قوله، وإن ادعى سبباً خفياً يعسر الإشهاد عليه، فيصدّق حينئذٍ.
وعندنا لا فرق في المودَع إذا أمكن صدقه، وذلك الكتاب مبني على أن صاحب الوديعة يحُل محلَّ المؤتمنين في إيداعه، فكان التزامُ تصديقه فيما يمكن صدقه فيه، ولم يوجد من الزوج ائتمان المرأة في جليّ ولا خفيّ، فامتاز هذا بوضعه عن المودَع وقياسِه، وبان أنا إنما نُصدّق المرأة في ذكر الحيض، والإعرابِ عن معنىً في الضمير يفرض متعلَّقاً للطلاق؛ من جهة أن كل معلِّقٍ بصفةٍ، فقضيةُ كلامه إمكان وقوع الطلاق عند وجود الصفة؛ فإن من ضرورة التعليق ترديد الأمر، فإذا كان لا مطَّلِع على ما جعله متعلَّقَ الطلاق إلا من جهتها، وهي في التقدير مكذَّبة، فكيف الوقوع ونفسُ تعليقه-وما به التعليق لا يأتي إلا من جهتها- في حكم الالتزام لتصديقها. وهذا أظهر من التزام المودِع تصديق المُودَع؛ فإن ذلك المعنى لا يستدّ في ذلك الكتاب ما لم يُعضَّد بمصلحة الإيداع، كما قرّرناه في موضعه.
9250- وممّا يتعلق بهذا الأصل أنه لو قال لإحدى امرأتيه: إن حضت، فَضَرّتك طالق، فإذا زعمت أنها حاضت، لم نحكم بوقوع الطلاق على ضَرَّتها، وإنما تُصدّق في حق نفسها إذا علق طلاقها بحيضها، وهذا يكاد يخرِم ما مهدّناه من قولنا: لا يُطَّلع على الحيض إلا من جهة المرأة، ويعترض أيضاًً على ما ذكرناه عَضُداً للكلام، إذا قلنا: التعليق يتضمن إمكان وقوع الطلاق على الجملة.
وسبيل الجواب عما نبهنا عليه أن المرأة إذا علق طلاقها بحيضها، فليست مصدَّقةً من غير يمين، وكلُّ مؤتمن، فمعنى ائتمانه الاكتفاءُ بيمينه، ثم تحليفها ممكن في حق نفسها، وإذا علق طلاق الضَّرّة بحيضها، فإن لزم تصديقُها من غير يمين، كان بعيداً، فإنه إثبات الطلاق من غير حُجّة، وإن حلفت، كان تحليفها لغيرها-ولا تعلّق للخصام بها- محالاً.
وقد يرد على هذا ما يتم البيان بالجواب عنه، وهو أن الرجل إذا قال لامرأته: إن حضت، فأنت وضرتك طالقان، فزعمت أنها حاضت، فهي مُصدّقة مع يمينها، والطلاق واقع عليها، ولا يلحق ضَرَّتَها وإن ثبت حيضها بيمينها المرتبطةِ بخاصّتها، والجواب أن اليمين وإن اشتملت على حق الحالف وحق غيره، فإذا ثبت حقُّ الحالف، لم يثبت حقُّ غيره؛ إذ الأيْمان بعيدةٌ عن قبول النيابة، وعن إثبات الحقوق لغير الحالفين.
ولو مات رجل وخلّف ابنين ودَيْناً، فادعى أحد الابنين الدين، وأقام شاهدين يثبت بالبينة حقُّه وحقُّ أخيه، ولو أقام شاهداً واحداً، وحلف معه، لم يثبت من الدّين إلا حصتُه، وإن تعرّض في اليمين لواقعةٍ يشتمل ذكرها على تمام الدين.
فهذا قاعدة الفصل.
9251- وإذا قال: إن حضت حيضةً، فأنت طالق، اقتضى ذلك حيضةً تبتدئها وتختمها بخلاف ما لو قال: إن حضت، فأنت طالق، فإنا نحكم بوقوع الطلاق مع أول جزءٍ من الحيض إذا تبيّناه باستمرار الدم يوماً وليلةً.
وإذا قال: إن حضت حيضةً، اقتضى ذلك حيضة كاملةً، ثم الطلاق يقع مع انقضاء الحيضة؛ فإنه متعلَّق الطلاق.
وإذا قال لامرأتيه: إن حضتما فأنتما طالقان، فلو حاضت إحداهما لم تطلق الحائض، ولا صاحبتها؛ فإنه علّق الطلاقين على الحيضين، فلا وقوع ما لم تحيضا.
ولو قال: إن حضتما حيضةً، فأنتما طالقان، فللأصحاب وجهان:
أحدهما: لا يقع على واحدة، وإن حاضتا؛ لأن مُطْلَقَ هذا اللفظ يقتضي أن تحيضا حيضةً واحدةً، وهذا مستحيل؛ فإنهما إذا حاضتا، فالصادر منهما حيضتان، فكأن الطلاق معلّق بمستحيل.
والوجه الثاني- أنه يقع، لأن حمل قوله: "حيضة واحدة" على حيضةٍ واحدةٍ من كل واحدة ممكن، وإذا أمكن تنزيل اللفظ على ممكن له تصوّر، وجب حمل اللفظ عليه، فإن مبنى النطق على ألا يُلغى ما أمكن استعماله، وهذا قطب في الكتاب، فليتنبه المرء له، وهو إذا تردّد اللفظ على وجه يحتمل استحالةً ويحتمل إمكاناً، فمن الأصحاب من لا يُبعد الحملَ على الاستحالة؛ حتى لا يقع الطلاق، ومنهم من يوجب الحمل على الإمكان حتى لا يلغو اللفظ؛ فإن التعرض للاستحالات يكاد أن يكون كالهزل، وهَزْلُ الطلاق جدّ. وعن هذا قال قائلون: الطلاق المعلَّق بالاستحالة على التصريح يتنجز ولا يتعلق.
ومن الأصل الذي نبهنا عليه قول القائل لامرأته وأجنبية: "إحداكما طالق"، فإذا زعم أنه أراد الأجنبية، فهو من فنّ الحمل على المحال، وفيه التردد الذي ذكرناه في فروع باب الشك.
وإذا قال لامرأتيه: إن حضتما، فأنتما طالقان، فقالتا: حضنا، نظر: فإن صدّقهما، طُلِّقتا، وإن صدق إحداهما وكذَّب الأخرى، طُلقت المكذَّبة، لأن صاحبتها مصدّقة وقولها في حق نفسها مقبول.
هذا ما ذهب إليه جماهير الأصحاب، ووجهه ما نبهنا عليه من أن المكذَّبة مصدّقة في حق نفسها، والمصدّقة يثبت حيضها بتصديقها، وأما المصدَّقة، فإنها لا تطلق؛ فإن حيضها وإن ثبت في حقها، فحيض المكدَّبة لا يثبت في حقها، فلم تطلق المصدَّقة؛ من جهة أن حيض المكذَّبة غيرُ ثابت في حقها.
وإذا كذبهما لما قالتا: حضنا، لم تطلق واحدة منهما: هذه لا تطلق؛ لأن حيض صاحبتها مردود في حقها، والأخرى لا تطلق بمثل هذه العلة.
9252- وإذا قال لأربع نسوة: إن حضتن، فأنتن طوالق، وقلن: حضنا، فإن صدّقهن، طلقن وإن كذبهن، لم تطلق واحدةٌ منهن، لا لأنها مكذبة في حق نفسها، ولكن لأن طلاق واحدة لا يقع ما لم يثبت حيض الجميع، وحيض صواحبات كل واحدة لا يثبت في حقها، وظهور ذلك يغني عن الإطناب فيه.
وإن صدّق واحدةً منهن وكذب ثلاثاًً، فلا تطلق واحدة، وتعليله ما مضى، وكذلك إن صدّق ثنتين وكذّب ثنتين، وإن صدّق ثلاثاًً وكذّب واحدةً، طلقت المكدَّبة، لأنها مصدَّقة في حق نفسها، وقد ثبت حيض صاحباتها بتصديق الزوج، ولا يطلق المصدقات، ولا واحدة منهن؛ لأن حيض المكذَّبة لا يثبت في حقوقهنّ.
وإذا تمهدت الأصول، وجب الاكتفاء في التفريع بالمرامز.
9253- فإذا قال: إن حاضت واحدة منكن، فصواحباتها طوالق، فإذا حاضت واحدة، لم تطلق الحائض، وطلقت صواحباتها، طلقة طلقة، وقد ذكرنا أنه لو كذب هذه، لم تطلق صواحباتها.
فإن قيل: كيف يصدقها ولا حجة؛ فإنها لا تحلف في حق الغير لو كُذّبت، ولا يعلم الزوج صدقَها قطعاً، والطلاق لا يقع من غير تثبّتٍ، وإن قيل إقرار الزوج يُلزمه موجَبَ قوله، فكل إقرار له مستند، فما مستند إقرار الزوج، وهو لم يتعرض لإقرار مرسلٍ بوقوع الطلاق، وإنما قال: "صُدِّقت في ادّعاء الحيض".
وهذا السؤال له وَقْعٌ؛ إذ لو قال الزوج: سمعتها، وأنا أجوّز أن تكون صادقةً وكاذبةً، ويغلب على ظنّي صدقُها، فلو لم يذكر إلا هذا، لم نحكم بوقوع الطلاق، وإذا قال: صدقتِ، فلا مستند لتصديقها إلا هذا، وقد قال الشافعي: إذا اعترف السيّد بوطء أمتهِ، ولم يدع استبراءً، لحقه النسبُ، فإنه لو استلحقه، لم يُسنده إلى ما ذكرنا، فلا جرم جعل الشافعي الإقرار بالوطء استلحاقاً؛ إذ الاستلحاق معناه الإقرار بالوطء. فهذا نهاية السؤال.
وقد سمعت بعض أكابر العراق يحكي عن القاضي أبي الطيب أنه حكى عن الشيخ أبي حامدٍ تردداً في الحكم بوقوع الطلاق إذا لم يكن للتحليف وجهٌ، فأما إذا حلفها، والمعلّق طلاقها، فاليمين حجّة، وحجج الشريعة مناط الأحكام، وينتظم منه أنه إن اكتفى بتصديقها ولم يُحلِّفها، فالحكم بوقوع الطلاق مشكلٌ كما ذكرناه.
وهذا نقلتُه وأسندتُه، ولست أعتمد ذلك؛ فإن المعتمد ما أطبق الأصحاب عليه، وقد تتبّعت طرقاً منقولةً عن الشيخ أبي حامدٍ، فوجدتها عريّةً عن ذلك.
وسبيل دفع السؤال أن جواز الحلف قد يستند إلى مخايلَ وأحوالٍ دالةٍ على الصّدق؛ حتى جوّرنا للمرأة أن تحلف على نية الزوجِ الطلاقَ، ولا مستند ليمينها إلا مخايلُ تتبيّنها من قصده، ولا قطعَ؛ إذ لو كانت تيك المخايلُ تورث قطعاً، لما صُدِّق الزوج في أنه لم ينو الطلاق، فإذا كان مثل هذا مستند الحلف، والحلفُ حجة، فإذا استند الإقرار إليه كيف لا نحكم به، وإنما ذكرت السؤالَ والجوابَ، ونَقْلَ التردد، حتى نُرسِّخ التنبه لما ذكرته في قلب الناظر.
9254- ولو قال: أيتكن حاضت، فصواحباتها طوالق، فقلن: "حضنا". إن كذَّبهنّ، لم تُطلَّق واحدةٌ منهنّ، وإن صدّقهنّ، طُلّقن ثلاثاًً ثلاثاًً؛ لأن لكل واحدة منهن ثلاثَ صاحبات، فتأتيها ثلاثُ طلقات من جهاتهنّ.
وإن صدّق واحدةً، طلقت صواحباتها طلقة طلقةً بلا مزيد، ولم تطلق المصدَّقة.
وإن صدق ثنتين، طلقت كل واحدة من المصدّقتين طلقةً لأن لها صاحبةً مصدَّقةً، فتأتيها من جهة صاحبتها طلقة، وطلقت المكدَّبتان طلقتين طلقتين؛ لأن لكل واحدة منهما صاحبتين مصدّقتين، وإن صدّق ثلاثاًً وكذّب واحدة، طُلقت المكذَّبة ثلاثاًً؛ إذ لها ثلاث صاحبات مصدَّقات، فتأتيها من جهاتهن ثلاث طلقات، وتطلق كل واحدة من المصدَّقات طلقتين؛ لأن لكل واحدة صاحبتين مصدّقتين.
فهذا بيان أصول هذه الفروع والإرشاد إلى كيفية تفريعها.
فروع في تعليق الطّلاق بالولادة.
9255- قد قدمنا الأصلَ المقصود في ذلك فيما سبق، فإن عاد فيما نجدّده بعضُ ما سبق احتُمل، فلو قال لأربع نسوةٍ: إن ولدتنّ فأنتن طوالق، فلا تطلق واحدة ما لم تلدن.
ولو قال: كلما ولدت واحدة منكن، فأنتن طوالق، فولدت واحدة، طلقت الوالدة طلقةً، وطلقت صواحباتها طلقة طلقة؛ فإن الولادة متحدة بعدُ، فإذا ولدت الثانية وقد كانت في العدّة عن الطلقة التي لحقتها، انقضت عدتها في الجديد، ولم تلحقها طلقة أخرى، والأُولى لما ولدت وطلِّقت استقبلت العدة بالأقراء، وإذا كانت في بقية من عدتها، فتلحقها بولادة الثانية طلقة ثانية، والثالثة والرّابعة تلحقها طلقتان.
هذا الذي ذكرناه في الثانية تفريعٌ على الجديد، وإن فرعنا على القديم، قلنا: يلحقها أيضاًً طلقة ثانية، وتستقبل العدة بالأقراء، وهذا قولٌ لا ينقدح لي توجيهه، وقد نقلت ما قيل فيه.
فإذا ولدت الثالثة، انقضت عدّتها في الجديد عن طلقتين، وطلّقت الأولى الطلقة الثالثة إن كانت في بقية العدة، وتطلق الرابعة ثلاثاً، وفي القديم تطلق الثالثة الطلقة الثالثة، وتستقبل الأقراء، وتلحق الطلقةُ الثالثةُ الثانيةَ.
ومهما فرضت ولادة في مطلَّقة جاريةٍ في العدة، والطلاقُ يتعلق بالولادة، فالقول الجديد مقتضاه انقضاء العدة، والانسراح وعدم لحوق الطلاق، والقول القديم مقتضاه وقوع الطلاق واستقبال العدة بالأقراء.
وهذا في الولادة المبرئة للرحم، وقد مهدنا هذا فيما تقدم.
9256- وإذا قال: كلما ولدتْ واحدةٌ منهن فصواحباتها طوالق، فولدت واحدة، طُلقت صواحباتها طلقة طلقة، فإذا ولدت الثانيةُ-والتفريع على الجديد، ولا عَوْد إلى القديم- انقضت عدّتها عن طلقةٍ، ووقعت على الأولى طلقة، وكملت للثالثة والرابعة طلقتان، فإذا ولدت الثالثة، انقضت عدّتها من طلقتين وكملت للأولى طلقتان، والرابعة ثلاث؛ فإذا ولدت الرابعة، انقضت عدتها عن ثلاث وكملت للأولى ثلاث إن كانت في بقية العدة.
وإن ولدت ثنتان منهن دفعةً، ثم ثنتان دفعة، وقعت على كل واحدة من الأوليين طلقة من جهة صاحبتها. وعلى كل واحدة من الأُخريين طلقتان بولادة الأوليين، إذ تأتي كلَّ واحدة منهما طلقتان من الولادتين، فلما ولدت الأخريان، وقع على كل واحدة من الأوليين-على تقدير بقاء العدة- طلقتان أخريان، فتكمل الثلاث في حق كل واحدة من الأوليين، ولم يقع على الأخريين بولادتهما شيء في الجديد؛ لأنهما ولدتا معاً، فصادف آخر انقضاء العدة في كل واحدة من الأخريين ولادة الأخرى، وإذا وجدت صفة الطلاق في حال انقضاء العدة، فلا فرق بين أن تكون تلك الصفة ولادة غيرها وبين أن يكون ولادتها.
فهذا بيان هذه الفروع ومنشؤها، وما لم نذكر منها، فالمذكور مرشد إليه.
فروع في المسائل الدائرة:
9257- إذا قال الرجل لامرأته: إذا طلقتك، فأنت طالق قبله ثلاثاًً، فطلقها، لم يقع عند ابن الحداد، ومعظمِ الأصحاب، وهذا مما يجرُّ ثبوتُ الطلاق فيه سقوطَه، وإذا كان كذلك، استدارت المسألة، وسقطت من أصلها؛ لأنّا لو أوقعنا الطلقة الّتي نجزها، للزمنا أن نوقع ثلاثاًً قبلها، ولو وقعت الثلاث قبلها، لامتنع وقوع هذه المنجّزة، وإذا امتنع وقوعها، امتنع وقوع الثلاث قبلها، فهذا معنى دورانها.
وذهب الشيخ أبو زيد إلى أن الطلقة المنجّزة تقع، وهذا مذهب أبي حنيفة، واحتج محمدٌ لأبي حنيفة، بأن الجزاء إذا رُتّب على الشرط، ترتب عليه، ولا يترتب الشرط، على الجزاء في وضع الكلام، فيجب على هذا المقتضى تحقيقُ الشرط، والنظر في الجزاء، فإن أمكن إمضاؤه أُمضي، وإن كان من عُسرٍ، انحصر على الجزاء، فأما أن ينعطف الجزاء على الشرط، فبعيد عن وضع الكلام، وتمسك أبو زيد باستبعاده في انسداد باب الطلاق.
وهذا ليس بذاك.
ووضع ابنُ الحداد هذه المسألة وذكر فيها زيادةً مستغنىً عنها، فقال: إذا قال: "إن طلقتك طلقةً أملك رجعتك بعدها، فأنت طالق قبلها ثلاثاًً " ولا حاجة إلى التقييد بالرّجعة، فإن المسألة تدور دون ذكرها لو قال: "إذا طلقتك، فأنت طالق قبله ثلاثاًً".
وإن قال: إن طلقتك طلقة أملك رجعتك، فأنت طالق قبلها طلقتين أفادت الزيادة، ودارت المسألة، فلا تقع المنجزة، ولا المعلقة؛ فإنه لو وقعت المنجزة، لوقعت قبلها طلقتان، وتكون المنجزة ثالثة، والثالثة لا تستعقب الرجعة.
ولو أطلق فقال: "إذا طلقتك، فأنت طالق قبلها طلقتين" فإذا طلّقها طُلّقت ثلاثاً ولا دَوْر.
وإن قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك، فأنت طالق قبلها طلقةً، دارت المسألة؛ فإنه لو وقعت المنجّزة، لوقعت قبلها طلقة، ولبانت المرأة، ثم لا تلحقها المنجّزة بعد البينونة، وتدور.
وإذا فرّعنا على القول بالدَّور وأراد الزوج أن يتّخذه ذريعةً، فليقل: إذا طلقتك، فأنت طالق قبله ثلاثاً. ثم إذا أراد طلاقاً، فليوكل؛ فإن تطليق الوكيل لا يندرج تحت تطليق الزوج.
ولو قال: مهما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاً، فينحسم عليه باب التطليق والتوكيلِ على القول بالدور.
وقد يلزم على مذهب ابن الحداد تصوير انسداد الطرق من كل وجه بأن يقول: "مهما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاًً، ومهما فسخت نكاحكِ، فأنت طالق قبله ثلاثاً"، فلا ينفذ منه لا فسخ ولا طلاق.
9258- ومذهب من ينكر الدورَ تنفيذُ المنجّزةِ وردُّ ما قبلها. هذا هو المشهور.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً على إبطال الدور أنها تطلق ثلاثاًً، قال: ثم اختلف الصّائرون إلى ذلك في وجه وقوع الثلاث، فمنهم من قال: يقع الثلاث المشروطة تقدمها، ولا تقع هذه التي أنشأها، وكأنه قال: مهما تلفظت بإنشاء طلقة، فأنت طالق قبلها ثلاثاًً، فوقوع الثلاث موقوف على لفظه، وإن كان لا يقع بلفظه طلاق منجّز.
وهذا رديء لا خروج له إلا على مذهب من يحمل اللفظَ المطلقَ على الفاسد والصحيح جميعاًً، وعليه خُرّج قول للشافعي فيه إذا أذن الرجل لعبده في النكاح، فنكح نكاحاً فاسداً ووطىء، قال في قول: يتعلق المهر بكسبه.
وهذا بعيد لا يفرّع على مثله.
قال الشيخ: وقال قائلون: تقع الواحدة التي أنشأها واثنتان من الثلاث المعلّقة.
9259- فانتظم أوجهٌ: أحدها: الدّورُ والقولُ به، وعليه تفريع معظم الأصحاب.
والثاني: وقوع ما ينجّز؛ لأنه شرطٌ، وإبطال الجزاء.
والثالث: تكميل الثلاث، ثم له مأخذان حكاهما الشيخ، كما بيناهما.
9260- ولو كانت المرأة غيرَ مدخول بها، فقال: مهما طلقتك، فأنت طالق قبلها، فالمسألة تدورُ على مذهب ابن الحداد، كما ذكرنا. فأما على مذهب أبي زيد فالطلقة المنجزة تقع، ومن قال ممن يخالف ابنَ الحداد في المسألة الأولى بوقوع الثلاث، فلا يوقع هاهنا أكثرَ من طلقةٍ واحدةٍ؛ فإن الطلقتين متباينتان زماناً ووقتاً، ويستحيل لحوق طلقتين كذلك بامرأة غيرِ مدخول بها، ولكن اختلف هؤلاء في أن تلحقها الطلقة المعلقة أو المنجزة، والمذهب عندهم وقوع المنجّزة.
9261- ومن صور الدّور في العتق أن العبد إذا كان مشتركاً بين شريكين، فقال أحدهما وهو موسر: مهما أعتقتَ نصيبك، فنصيبي حرّ قبل نصيبك، والتفريع على تعجيل السّراية، فمهما أعتق الشريك، لم ينفذ عتقه، فإنه لو نفذ، لنفذ عتق شريكه قبله وسرى إلى نصيبه، ثم كان لا ينفذ عتقه.
ولو ذكر كلُّ واحد منهما لصاحبه مثلَ ذلك-وهما موسران- لم ينفذ عتقُ واحد منهما.
أما أبو زيدٍ، فإنه يمنع ذلك ويشتدّ على ابن الحداد؛ فإنه استبعد انحسام الطلاق على المطلِّق، وهذا حَسْمُ الإعتاق على المالك ممّن ليس مالكاً، فكأنّ كل واحد منهما حجر على صاحبه أن يتصرّف بأقوى التصرفات في ملكه.
9262- ومن صور الدّور في هذه الأجناس أن يقول لامرأته: إن وطئتك وطأ مباحاً، فأنت طالق قبله. فإذا وطئها، لم يقع الطلاق؛ فإنه لو وقع، لما كان الوطء مباحاً. قال الشيخ: وأبو زيد يوافق في هذا؛ فإن الذي نحاذره انحسامَ الطلاق وانسداد باب التصرف، وهذا لا يتحقق في تعليقٍ بفعلِ واحدٍ.
ولو قال لامرأته: إن ظاهرتُ عنكِ أو آليت عنك، فأنتِ طالق قبله ثلاثاًً، فلا يصح الإيلاء والظهار على أصل ابن الحداد للدّور، وعند أبي زيدٍ يصح الإيلاء والظهار؛ فإنه سدُّ بابٍ من التصرفات، ولا يقع الطلاق قبلهما.
ومن المسائل أن يقول للرجعية: إن راجعتك، فأنت طالق قبلها ثلاثاًً، فلا يصح الرّجعة عند ابن الحداد للدّور، ويصح عند أبي زيدٍ، حتى لا يؤدي إلى حَسْم التصرف.
ومن الصور أن يكون للرجل امرأة وعبد، فيقول لامرأته: مهما دخلتِ الدار وأنت زوجتي، فعبدي حر قبل دخولك، وقال لعبده مهما دخلت الدار وأنت عبدي، فزوجتي طالق قبل دخولك، ثم دخلا معاً، لم تطلق المرأة، ولم يعتِق العبد وتعليله بيّن، والشيخ أبو زيد لا يخالف في هذه المسألة؛ لأنه ليس فيه سدّ بابٍ.
وذكر الشيخ صوراً واضحةً، لم أر في ذكرها فائدة. ومَنْ فَقُه نفسُه لا يتصور أن تُلقى عليه مسألة دائرة، فلا يتنبه أما من احتدّت قريحته، فإنه يبتدر فهمَ الدّور، ومن كان في دركه بطء يتبين الدّورَ إذا لم تنتظم المسألة.
9263- ومما ذكره أن قال: من أصحابنا من حكى عن ابن سُريج أنه قال: إذا قال لامرأته: مهما طلقتك طلقة أملك فيها الرّجعة، فأنت طالق ثلاثاًً، قال ابن سريج- فيما حكاه هذا الحاكي: تدور المسألة، ولا يقع المنجّز ولا المعلّق؛ لأنه لو وقع ما نَجَّز، لوقع الثلاث، وإذا وقع الثلاث، لم تثبت الرّجعة، وإذا لم تثبت، لم تقع الثلاث، فلا يقع.
قال الشيخ: حُكي عنه هذا، ونُسب إلى كتاب له يسمى "كتاب العيبة" ولم ينقلوا في هذه المسألة التقييد "بما قبلُ" فلم يقل: مهما طلقتك طلقةً أملك الرجعة، فأنت طالق (قبلها) ثلاثاًً. قال الشيخ: ابن سريج أجلّ من أن يقول ذلك، فلعلّ المنقول سقطة من كاتب أو ناقل، والمسألة لا تدور، والثلاث تقع؛ لأنه إذا طلق واحدةً، استعقبت الرجعةَ، ووقع الثلاث على الاتصال بها مترتبةً عليها، وهي التي تقطع الرجعة؛ فلا وجه في الدور.
ولكن لو قال: إن طلقتك طلقةً رجعيةً، فأنت طالق معها ثلاثاًً، فإذا طلقها، فيجوز أن تخرّج المسألة على وجهين:
أحدهما: لا يقع شيء؛ لأن الثلاث تقترن بالطلقة المنجَّزة، فلا تكون رجعيةً، فتدور المسألة.
والوجه الثاني- يقع الكل على الترتيب، وإن قُيّد بالجمع.
وهذا كاختلاف أصحابنا في أنه لو قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك، فأنت طالق طلقة معها طلقة، فطلقها هل يقع الطلقة المعلَّقةُ؟ فيه وجهان ذكرناهما.
وعندي أن المسألة المنقولة عن ابن سريج على وجهها؛ فإنه قال: إذا طلقتك طلقة أملك فيها الرجعة، ولا يتصوّر ملك الرجعة مع وقوع الثلاث، فلا تتحقق الصفة، وإذا لم تتحقق، لم يقع الثلاث. وتحقيقُ ذلك أنه لا يفرض حال فيها رجعة لا يصادمها وقوع الثلاث؛ فالثلاث تمنع الرّجعة ولا تقطعها، فلا وجه لاستبعاد الشيخ؛ فإنّ ما ذكره إن كان متجهاً، فما ذكره ابن سريج أو حُكي عنه لا ينحط عن وجهٍ ظاهر.
فروع متعلقة بالتعليق بصفات الأولاد والحمل
9264- قد ذكرنا أنه لو قال لها: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فأتت بولد لأقلَّ من ستة أشهر، طلّقت، وإن أتت به لأكثرَ من أربع سنين، لم تطلق. وإن أتت لأقلَّ من أربع سنين وأكثرَ من ستة أشهر، فقد تقدّم التفصيل فيه.
ونحن ننشىء الآن فروعاً تتعلق بتغايير الصيغ والألفاظ.
9265- فإذا قال: إن كنتِ حاملاً بذكرٍ، فأنتِ طالق، وإن كنت حاملاً بأنثى، فأنت طالق طلقتين، فإن وضعت ذكراً فحسب، انقضت عدتها عن طلقةٍ؛ فإنه لم يتعلق الطلاق بالولادة، وإن وضعت أنثى فحسب، انقضت عدتها عن طلقتين، ولو وضعت ذكرين فحسب، فالطلقة واحدة، لا تزيد بزيادة الذكور، وكذا إن وضعت أنثيين، فيقع بالثنتين ما يقع بالواحدة، ولو وضعت ذكراً وأنثى، انقضت عدتها عن ثلاث؛ فإنا تبينا أنها حامل بذكر وأنثى؛ فلحقها الثلاث، ولم يتوقف وقوع الطلاق على الولادة، حتى نقع في تفريع مصادفة وقوع الطلاق انقضاء العدة.
9266- ولو قال: إن كان حملك ذكراً، فأنت طالق طلقةً. وإن كان أنثى، فأنت طالق طلقتين، فإن وضعت ذكراً فحسب، انقضت عدتها عن طلقة. وإن وضعت أنثى، انقضت عدتها عن طلقتين، وإن وضعت ذكراً وأنثى، لم يقع عليها شيء؛ لأن قوله: "إن كان حملك ذكراً" يقتضي أن يكون جميع حملها ذكراً، وكذلك قوله: "إن كان حملك أنثى" يقتضي كون جميع الحمل أنثى؛ فإذا كان البعض ذكراً والبعض أنثى، لم توجد الصفة في الوجهين جميعاًً، فلم يقع شيء.
ولو كانت المسألة بحالها، فأتت بذكرين لا أنثى معهما، أو أتت بأنثيين لا ذكر معهما، فقد قال القاضي: يقع الطلاق، وقوله: إن كان حملك ذكراً محمول على جنس الذكور، وقوله: إن كان حملك أنثى محمول على جنس الإناث.
وهذا ليس على وجهه عندنا، وكان شيخنا يقول: إذا أتت بذكرين، لم يقع شيء؛ فإن حملها زائد على ذَكَر، فهو كما لو أتت بذكر وأنثى، والاسم المنكور مقتضاه التوحيد في مثل ذلك، فإذا أتت بعددٍ، فصفة التوحيد غيرُ متحققة، وصار كما لو أتت بذكر وأنثى، والمسألة مفروضة فيه إذا كانت مُطْلقة، والحكم بوقوع الطلاق حملاً على الجنس في صورة الإطلاق بعيد.
نعم، إن قال: أردت الجنس، فنحكم بوقوع الطلاق للاحتمال الذي يبديه، وقد ذكرنا أن الطلاق يقع باحتمال خفيّ إذا أراده الرجل.
9267- ولو قال: إن كان ما في بطنك ذكرٌ فأنت طالق طلقةً، ولو كان ما في بطنك أنثى، فأنت طالق طلقتين، فهو كما لو قال: إن كان حملك ذكراً وإن كان حملك أنثى. ولو قال: إن كان في بطنك ذكر، فأنت طالق واحدةً، وإن كان في بطنك أنثى، فأنت طالق ثنتين، فإذا ولدت ذكراً وأنثى، تبينا أنها طلقت ثلاثاً قبل الوضع، وانقضت عدّتها بآخر الولدين، والفرقُ ظاهر؛ فإن قوله: إن كان ما في بطنك تعبير عن جميع ما في البطن، وقوله: إن كان في بطنك لا يتضمن حصراً، ولكن يتضمن كون الذكر والأنثى، أو كونهما.
ولو قال: إن كان مما في بطنك ذكر، فأنت طالق طلقةً، وإن كان مما في بطنك أنثى، فأنت طالق طلقتين، فهذا لا يقتضي أولاً كون جميع الحمل ذكراً أو أنثى؛ فإن كلمة (مِن) للتبعيض. ولكن لو أتت بذكرٍ، فالذي أطلقه الأصحاب أنها تطلق طلقة، وإن لم يشتمل رحمها على غيره، ولو كان في رحمها أنثى فحسب، طلقت طلقتين.
وهذا فيه بعض النظر، والوجه ألا يقع شيء إذا أتت بولدٍ واحدٍ؛ لأن (مما) مركّبٌ مِن (مِنْ وما) و (مِن) للتبعيض، فكأنّ الطلاق معلّق بالذكر إن كان بعضاً من الحمل، وإذا كان وحده لم يتحقق هذا المعنى.
وكذلك القول في الأنثى الفردة.
ولو أتت بذكرين، وقع الطلاق؛ لتحقق التبعيض، وكذلك القول في الأنثيين.
ولو قال: إن كنت حاملاً بذكر، فأنت طالق واحدة، وإن كنت حاملاً بأنثى، فأنت طالق ثنتين، فإن وضعت ذكراً، فطلقةٌ، وإن وضعت أنثى فطلقتان، وإن وضعت ذكراً وأنثى، انقضت عدتها عن ثلاث طلقات.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الطلاق معلّقاً على الحمل.
9268- فأما إذا علّق بالولادة، فقد تمهّدت الأصول فيها، ولكنا نذكر مسائل.
فإذا قال: إن ولدت ذكراً، فأنت طالق طلقةً، وإن ولدت أنثى، فأنت طالق طلقتين، فلو ولدت ذكراً فحسب، وقعت عليها طلقةٌ، واعتدت بالأقراء، فإن ولدت أنثى فحَسْب فطلقتان، وتعتد بالأقراء. وإن ولدت ذكراً وأنثى، فإن وضعتهما متعانقين دفعةً واحدةً، طلقت ثلاثاًً، واستقبلت العدة بالأقراء.
وإن وضعتهما على الترتيب، نُظر: إن وضعت الذكر أولاً، فطلقة وانقضت عدتها بالأنثى في الجديد عن طلقة.
وإن وضعت الأنثى أولاً، فطلقتان، وانقضت عدتها بالذكر عن طلقتين، على المذهب الجديد.
ولا يخفى القديم والتفريع عليه.
وإن أشكل المتقدّم منهما، أخذنا بالأقل وحكمنا بوقوع طلقةٍ.
وإن وضعت ذكرين وأنثى، نُظر: فإن وضعتهما ثم وضعت الأنثى، لحقتها طلقة بالأول فحسب، وانقضت العدّة بالأنثى.
وإن وضعت الأنثى أولاً، ثم وضعتهما على الترتيب، لحقتها طلقتان، وطلقة أخرى بالأوّل من الذكرين، وانقضت العدة بالثاني.
وإن وضعت الذكرين بعد الأنثى ملْتفَّين معاً، لحقتها طلقتان بالأنثى، وانقضت العدة بوضع الذكرين على الجديد، وعلى القديم يلحقها طلقة بأحد الذكرين بعد الثنتين، وتستقبل العدّة بالأقراء.
وإن وضعت في هذه الصورة ذكراً، ثم أنثى، ثم ذكراً، فطلقة، ثم طلقتان، وتنقضي العدة بالذكر الثاني عن ثلاث. وإن وضعت ذكراً وأنثيين، فالقياس على ما مضى.
9269- ولو كانت له امرأتان عمرة وزينب، فقال: كلما ولدَتْ واحدةٌ منكما، فأنتما طالقان، فولدت عمرة يوم الخميس ولداً، وزينب يوم الجمعة ولداً، ثم ولدت عمرة يوم السبت ولداً آخر، وزينب يوم الأحد ولداً آخر، فنقول: لما ولدت عمرة وقعت على كل واحدة منهما يوم الخميس طلقة، ووقعت على كل واحدة منهما يوم الجمعة طلقة أخرى، ثم تنقضي عدة عمرة بما ولدت يوم السبت عن طلقتين في الجديد، ووقعت بها طلقة أخرى على زينب، فكمل لها الثلاث وانقضت عدتها بولادتها يوم الأحد عن ثلاث.
ولو قال: إن ولدتِ أنثى، فأنت طالق طلقتين وإن ولدتِ ولداً، فأنت طالق طلقة، فولدت أنثى، طُلِّقت ثلاثاً؛ لأنها وضعت ما يسمى ولداً وما يسمى أنثى، فهو كما لو قال: إن كلمت رجلاً، فأنت طالق، وإن كلمت زيداً فأنت طالق وإن كلمت فقيهاً، فأنت طالق، فكلمت زيداً وكان فقيها طلقت ثلاثاًً لاجتماع الصفات الثلاث به.
فروع في تعليق الطلاق بالحلف بالطلاق.
9270- إذا كانت له امرأتان زينبُ وعمرةُ، فقال: إن حلفت بطلاقكما، فعمرة طالق، ثم قال ثانية وثالثةً: إن حلفتُ بطلاقكما، فعمرة طالق، فلا يقع الطلاق أصلاً، فإنه انعقد يمينه أولاً، ثم لم يحلف بعدها بطلاقهما، بل حلف بطلاق عمرة، فإن المحلوف بطلاقها هي التي تطلق، ولم يقع التعرض إلا بوقوع الطلاق على عمرة، وهو قد علق الطلاق على أن يحلف بطلاقهما.
فلو قال أولاً: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق، ثم قال: إن حلفت بطلاقكما، فزينب طالق، فلا تطلق بعدُ واحدةٌ منهما؛ فإنه علّق طلاق عمرةَ على الحلف بطلاقهما، فليقع بعد ذلك حلف بطلاقهما، ولم يحلف بعد ذلك إلا بطلاق زينب، فلو ذكر الحلف بطلاق زينب مراراً، فلا يقع الطلاق أصلاً.
ولو ذكر عمرة أولاً على الصيغة التي ذكرناها، ثم ذكر زينب على الصيغة التي وصفناها، ثم ذكر عمرة مرَّة أخرى، فتطلق عمرة الآن؛ فإنه حلف بطلاقها أولاً، وعلّق طلاقها بأن يحلف بطلاقهما، ثم جرى بعد ذلك حلف بطلاق زينب، ثم حلف بطلاق عمرة، فقد تحققت الصفتان، واجتمع اليمينان في حقها. وأما زينب، فلم يوجد بعدُ الحلف بطلاقهما بعد الحلف بطلاق زينب.
فصوِّرْ واحْكُم، وهذا سهل المُدرك.
9271- ولو كانت له امرأتان، فقال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها منكما، فصاحبتها طالق، قال صاحب التلخيص: إذا سكت ساعةً يمكنه أن يحلف فيها بطلاقهما فلم يحلف، طلقتا، ولو قال مرةً أخرى: "أيما امرأة لم أحلف بطلاقها، فصاحبتها طالق" على الاتصال باليمين الأولى قال: قد برّ في اليمين الأولى، فإنه قال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها، فإذا كرّر هذه اللفظة مرة أخرى، فقد حلف بطلاقهما جميعاًً، وبرّ في اليمين الأولى، ولكن انعقدت يمين أخرى، فإن كرّر ثلاثاً على الاتصال، برّت اليمين الثانية، وانعقدت اليمين الأخرى، فلو سكت عقيب اليمين الأخيرة لحظةً يتصور فيها الحلف بالطلاق، فلم يحلف طُلِّقتا جميعاً.
والمسألة فيها إشكال؛ من قِبل أنه جعل ما يجري مقتضياً للفور، حتى قال: لو سكت عقيب اللفظ لحظة، حكم بوقوع الطلاق بالحلف الأوّل، قال الشيخ أبو عليَّ: عرضت هذه المسألة على الشيخ القفال، وعلى كل مَنْ شرح التلخيص، فصوَّبوه.
والذي يقتضيه القياس عندي أن قوله: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها، فغيرها طالق، لا يقتضي الفور أصلاً، ولو سكت على ذلك، لم نحكم بوقوع الطلاق على واحدة منهما إلى أن يتحقق اليأس بأن يموت هو أو تموتا.
وإنما قلنا ذلك، لأن الذي يقتضي الفور في هذه المنازل هو الذي ينطوي على ذكر وقتٍ مع التعلق بالنفي، مثل قوله: أيُّ وقتٍ لم أطلّق، أو إذا لم أطلّق، أو متى لم أطلّق، وقد نصّ الأصحاب على أنّه إذا قال: "متى لم أطلقك" فهذا يقتضي الفور، ولو قال: "إن لم أطلقك" فهذا على التراخي. وقوله: أيُّما امرأة ليس فيه تعرض للأوقات أصلاً.
والذي ذكره الشيخ أوضح من أن يُحتاج فيه إلى الإطناب، ولست أدري لما ذكره صاحب الكتاب وجهاً.
فإن قيل: قد نص الأصحاب على أنه لو قال لامرأته: (كلما) لم أطلقك، فأنت طالق، فهذا على الفور، وليس فيه تعرّض للوقت؟ قلنا: هذه المسألة صحيحة، وأجمع أهل العربيّة على أنّ (ما) في كلما ظرف زمانٍ، وأمّا قوله: فأيما امرأة فـ "أيّ" تسمية المرأة.
ولو قال: أنت طالق ما لم أطلقك، فهذا على الفور أيضاًً؛ فإن (ما) في هذه المنزلة بمثابة (إذا)، فهو ظرف زمان.
9272- ومما نذكره في الحلف بالطلاق أن الرّجل إذا قال لامرأته: إن حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار، فأنت طالق، طلقت بهذا التعليق؛ فإنه حلف بطلاقها.
وبمثله لو قال بعد الكلام الأول: إذا طلعت الشمس، فأنت طالق، لم تطلق، هكذا ذكره ابن سريج رحمه الله، واعتل بأن اليمين ما يقصد بها استحثاث على إقدامٍ، أو على إحجامٍ، وذِكْر طلوع الشمس في الصّورة التي ذكرناها تأقيتٌ، ليس فيه حث على فعلٍ ولا على ترك فعلٍ، وقد وجدت الأصحاب على موافقته.
ولو قال: إذا دخلت الدّار، فأنت طالق، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن هذا يمين؛ لأنّ قصده المنع، فصار كما لو قال: إن دخلت الدّار.
والثاني: إنه ليس بيمين، والاعتبار باللفظ، وإذا للتأقيت.
ولو قال: إن طلعت الشمس، فأنت طالق، فقد ذكر بعض أصحابنا وجهين في أن هذا هل يكون يميناً؟ وهذا زللٌ؛ فإن ما لا يتصور الاستحثاث عليه لا يفرض اليمين فيه كيف صرفت العبارات.
مسائل شتى وفروع مختلفة:
فرع:
9273- إذا قال لامرأته: إن بدأتك بالكلام، فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك بالكلام، فعبدي حرّ، ثم كلمها، ثم كلمته، لم تطلق هي، ولم يعتق عبدها؛ لأن الزوج بتكليمها بعد عقد يمينها، لم يكن بادئاً بالكلام، وإنما كان تالياً، فإنها بدأته بقولها: إن بدأتك بالكلام فعبدي حرّ، والرمز في مثل هذا كافٍ، فلا نبسُط بعد هذا، إلا في محل الحاجة.
ولو قال لواحدٍ: إن بدأتك بالسلام، فعبدي حرّ، فقال له ذلك الإنسان: إن بدأتك بالسلام، فعبدي حرّ، فسلم كل واحد منهما على صاحبه دفعةً واحدةً، لم يحنث واحد منهما؛ لأنه لم يوجد منهما البداية بالسّلام، وانحلت اليمين.
فلو سلم أحدهما بعد ذلك، لم يحنث؛ فإن سلامه لا يقع ابتداء مع ما تقدم.
فرع:
9274- إذا قال لها: إن أكلت رمانةً فأنت طالق، وإن أكلت نصف رمانةٍ، فأنت طالق، فأكلت رمانةً كاملة، طُلقت ثنتين، لأنها أكلت رمانةً ونصفَ رمانةٍ، وهذا من الأصول؛ فإنّ (إن) وإن كان لا يقتضي تكراراً، فإذا ذكر لفظ (إن) وجرى موجودٌ واحد تحت اسمين، فقد وجد الاسمان، فالتعدد من تعدد الاسم، لا من التكرار.
ولو قال لها: إن أكلتِ رمانةً، فأنتِ طالق، وقال: كلما أكلت نصف رمانة، فأنت طالق، فأكلت رمانة، طلقت ثلاثاًً، وهذا من أصل التكرار، وقد أكلت نصفي رمانة ورمانة، وفي المسألة الأولى تحقق اسمان: الرمانة ونصف الرمانة.
فرع:
9275- إذا كانت له امرأتان حفصة وعمرة، فقال: مَنْ بَشَّر بقدوم زيدٍ، فهي طالق، فبشرته حفصة، ثم عمرة، طُلقت حفصة، ولم تطلق عمرة؛ لأن البشارة هي الأولى.
ولو ذكرت حفصة كاذبةً، لم تطلق، فإذا ذكرت عمرة صادقة، طلقت.
ولو بشره أجنبي بقدوم زيد صادقاً، ثم بشّرتاه أو إحداهما، لم يقع الطلاق.
والبشارة الكلامُ الأول الصدق الذي يقرع سمع الإنسان.
ولو بشرتاه معاً صادقتين، طلقتا.
ولو قال: من أخبرني بقدوم زيدٍ فهي طالق، فأخبرتاه على الجمع أو على الترتيب صادقتين أو كاذبتين، طلقتا؛ فإن اسمَ الخبر يتناول ذلك كلّه.
9276- فرع لابن الحداد: إذا كان له امرأتان زينب وعمرة، فنادى عمرة، وقال: يا عمرة، فأجابت زينب، فقال: "أنت طالق"، فنَسْتَفْصِلُ الزوجَ أولاً، ونقول: هل عرفت أن التي أجابتك زينب أم ظننتها عمرة؟ فإن قال: عرفت أن التي أجابتني زينب، فيقال له: فما كان قصدك بعد ذلك؟ فإن قال: أردت تطليق زينب، ولم أرد تطليق عمرة، فيقبل قوله؛ إذ قد ينادي الرجل امرأةً، ثم لا يطلقها ويطلق غيرها، وربما نادى عمرة لشغل، فلما أجابته زينب غاظه ذلك؛ فطلقها، فليس من ضرورة النداء السّابق أن تكون المناداة مطلّقةً.
ولو قال: علمت أن التي أجابتني زينب، ولكني أردت بقولي: "أنت طالق" تطليقَ عمرة، لا تطليق زينب. أما عمرة فتطلق ظاهراً وباطناً، فإنه سمّاها، وقال: أنت طالق، وأما زينب، فتطلق ظاهراً، فإنه خاطبها بالطلاق، ولا يقبل ما قاله ظاهراً في درء الطلاق عن زينب، ولكن يُدَيَّن باطناًً.
وفي هذا فضل نظر؛ فإنه إن نادى واسترسل في كلامه، ولم يربط قوله: "أنت طالق" بانتظار جواب، وبان ذلك في جريانه في الكلام واتحاد جنس صوته ونغمته، ثم قال: أردت عمرة، لم تطلق إلا عمرة ظاهراً وباطناً. وقد أوضحنا فيما تقدّم ظهور أثر النغمات والتقطيعات.
فأما إذا نادى منتظراً جواباً، فاتّصل جواب زينب، فقال: أنت طالق، وَرَبَط بالنغمة قوله على جواب زينب، فعند ذلك نقول: تطلق زينب ظاهراً وعمرة لا يظهر طلاقها والحالةُ هذه، غيرَ أنه إذا قال: نويتُها صُدِّق ظاهراً، وإلا فلا يتصوّر ظاهران على التنافي، غير أنا ذكرنا أن القصد الخفي في الوقوع ملحق بالظاهر.
هذا كله إذا قال: علمت أن المجيبة زينب.
9277- فأما إذا قال: حسبت أن التي أجابتني عمرة، وما ظننتها زينب فخاطبتها بالطلاق على ظن أنها عمرة.
قال ابن الحداد: أما عمرة، فلا تطلق؛ فإنه ناداها وسمّاها، ثم خاطب بالطلاق غيرَها، فانقطع خطاب الطلاق عن النداء، فنجعل كأنّ النداء لم يكن، فلا يبقى فيها عُلقة إلا أنه ظن المخاطبةَ عمرة، وهذا لا يقتضي وقوعَ الطلاق على عمرة؛ فإنه لو خاطب واحدةً من نسائه وقال: أنت طالق، ثم قال خاطبتها على ظن أنها عمرة، فإذا هي زينب، فيقع على زينب المخاطبة، ولا تطلق عمرة. هذا قولنا في عمرة.
وهل تطلق زينب التي أجابت؟ ذَكَر فيه وجهين:
أحدهما: تطلق، وهو الظاهر، ولهذا قطعنا الطلاق عن عمرة، ولو قيل: المخاطبة تطلق ظاهراً والتي ناداها أولاً هل تطلق أم لا؟ فعلى وجهين، لكان محتملاً.
فرع:
9278- إذا كان تحته امرأتان، فقال لإحداهما: أنت طالق إن دخلتِ الدار، لا بل هذه، وأشار إلى الأخرى، قال أصحابنا: إن أطلق لفظه، وتحقق أنه رام تطليق الثانية بقوله: "لا بل هذه" فمطْلَق ذلك يقتضي أن المرأتين جميعاًً تطلقان. إذا دخلت الأولى الدار.
ومعنى الكلام: "أنت طالق إن دخلتِ الدار لا بل هذه عند دخولك"؛ فلا يصح رجوعه عن طلاق الأولى ويُثبت الثانية، فيقع الطلاق عليهما جميعاً عند دخول الأولى.
ولو قال: أردت بقولي: "لا بل هذه" أن هذه تطلق إذا دخلت هي بنفسها الدار، فهل يُقبل ذلك منه أم لا، فعلى وجهين:
أحدهما: يُقبل منه ويحمل الكلام عليه للاحتمال الظاهر فيه، وحقيقة عطف هذه على الأولى أن تكون مثلَها وشريكتَها في المعنى. ثم الأولى لا تطلق إلا بدخول الدار، فكذلك الثانية ينبغي ألا تطلق حتى تدخل بنفسها الدار؛ إذا فُسّر قوله بهذا.
والوجه الثاني-وهو اختيار القفال- أنه لا يقبل ذلك منه في الثانية على هذا الوجه، ولكن يحمل لفظه على طلاق الثانية بدخول الأولى، ولا يصدق فيما قاله من إرادة دخولها بنفسها، وتمسك فيما قاله بمسألة، وهي أنه قال: الطلاق يقع بالكناية تارةً وبالصّريح أخرى، والأيْمان لا تنعقد بالكنايات، وبيانه أنه لو قال لإحدى امرأتيه: أنت طالق إذا دخلت الدار، ثم قال للأخرى: أنت شريكتها، فإن أراد بذلك أن الثانية تطلق إذا طلقت الأولى، فيقبل منه ذلك، وإن أراد بذلك أنها إذا دخلت الدار بنفسها طلقت، كالأولى إذا دخلت، فلا يقبل ذلك منه.
وهذه المسألة التي استشهد القفال بها ربما لا تَسْلَم دعوى الوفاق فيها، والقول الجامع فيه: أنه لو حلف بالله على فعلٍ أو تركٍ، ثم قال: الفعلُ الآخَر مثلُ الفعل الأول، فلا يكون حالفاً؛ فإن عماد اليمين بالله تعالى ذكر الاسم المعظم، ولم يجر ذلك الاسم في الفعل الثاني الذي أشار إليه.
وإذا قال لإحدى امرأتيه: أنت طالق، ثم قال لضرتها: "أنت شريكتها" ونوى التسويةَ بينهما في الطلاق، فهذا مقبول. ولو قال لإحدى امرأتيه: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال للأخرى أنت شريكتها، وأراد أنك تطلقين إذا طلقت فهذا يثبت؛ فإنه إشراك في الطلاق عند وقوعه.
ولو علق طلاق الأولى بصفة، ثم قال للأخرى: "أنت شريكتها" ونوى تعليق طلاقها بالدخول، فهذا محل الوجهين؛ فإن هذا يتردد بين الإشراك في اليمين وبين الإشراك في الطلاق، فإذا قلنا: يقبل الإشراك في الطلاق، فالتعليق قريب منه، ومن لم يَقْبل قوله في حق الثانية إن قال: أردت تعليق طلاقها بدخول نفسها، فلا يوقع عليها طلاقاً إذا دخلت الأولى، بل تُلغى اللفظة، ولو قال لإحدى امرأتيه: "إن دخلت الدار، فأنت طالق، لا بل هذه" ثم زعم أنه نوى تعليق طلاق الثانية بدخولها في نفسها، فإن قبلنا هذا، فلا كلام، وإن لم نقبله، حكمنا بأنها تطلق بدخول الأولى؛ فإن قوله: "لا بل هذه" يترتب على كلام صريح في الطلاق منتظمٍ معه انتظاماً يقتضي الطلاق لا محالة، وقوله: أنت شريكةُ الأولى كلامٌ مبتدأ متردّدٌ، فإن حمل على محملٍ غير صحيح، بطل اللفظ والحمل.
فرع:
9279- إذا قال الرجل وتحته امرأتان: زينب وعمرة، فقال لزينبٍ: إن طلقتك، فعمرة طالق، وقال لعمرة: إن طلقتك، فزينب طالق، فقد علق طلاق عمرة ابتداء، ثم علّق طلاق زينب انتهاء، فلو طلق عمرة أولاً تنجيزاً، طُلِّقت، وطلقت زينب؛ فإنه قال: إن طلقت عمرة، فزينب طالق، وهل تطلق عمرة طلقة أخرى غير المنجزة بسبب أن الطلاق وقع على زينب-وقد قال: إن طلقت زينب فعمرة طالق-؟ طريق التحقيق في ذلك أن نقول: قد قال ابتداء: إن طلقت زينب فعمرة طالق، فمهما أنشأ بعد ذلك تعليق طلاق زينب، ثم وقع الطلاق بالصفة، فقد طلق زينب، ومعلوم أنه بعد ما ذكر أولاً تعليق طلاق عمرة، علق بعد ذلك طلاق زينب، حيث قال آخراً: إن طلقت عمرة، فزينب طالق، فلما طلقت زينب بوجود الصفة، فتعود طلقة إلى عمرة لا محالة، فتطلق طلقتين: طلقةً بالتنجيز، وطلقة بالصّفة، وزينب لا تلحقها إلا طلقة واحدة.
ولو كان المسألة بحالها ولكنه طلّق زينب أولاً، فتطلق عمرة؛ فإنه قد قال ابتداء: "إن طلقت زينب، فعمرة طالق" ولا تعود طلقة إلى زينب؛ وذلك أنه لم يعلق طلاق زينب إلا انتهاء، لمّا قال: إن طلقت عمرة، فزينب طالق، فينبغي أن تطلق بعد هذا عمرة إنشاء، أو يبتدىء، فيعلق بعد ذلك طلاقها، ولم يوجد بعد القول الأخير تعليق طلاق عمرة، وإنما علّق طلاقها قبل ذلك.
وعبرة هذه المسألة أنه لو قال لامرأته زينب: "إن دخلتِ الدار، فأنتِ طالق"، ثم قال لعبده: "إن طلقتُ زينب، فأنت حرّ"، فإذا دخلت الدار وطلقت، لم يعتِق العبد؛ فإن تعليق طلاق المرأة سبق تعليق العتق.
وبمثله لو قال لعبده أولاً: إن طلقتها، فأنت حرٌ. ثم ابتدأ بعد ذلك فعلّق طلاقها بدخول الدار، فإذا دخلت، طلقت وحصل العتق.
هذا هو الأصل، وقد يحوّج بعض الصور إلى مزيد فكرٍ.
فرع:
9280- الذمي الحرّ إذا نكح امرأة وطلقها واحدة، ثم نقض العهد، واستُرِق، فأراد أن ينكح امرأته التي طلقها في الحرّية طلقةً واحدة، فنكحها بإذن السّيد، ملك عليها طلقةً واحدةً؛ فإنه طلقها من قبلُ طلقةً، وهي محسوبةٌ، ثم نكح وهو رقيق، ولا يملك الرقيق إلا طلقتين، وقد استوفى إحداهما.
وبمثله لو نكح في الكفر امرأة وطلقها طلقتين، ثم التحق بدار الحرب، فاستُرق بعد نقض العهد، وأراد أن ينكح تلك المرأة بعينها، قال ابن الحداد: له ذلك، ويملك عليها طلقة واحدةً؛ والعلّة فيه أنه لما طلقها في الحرّية، لم تحرَّم عليه، إذ هو حر، فيستحيل أن يقال: طرْدُ الرق يحرم عليه امرأة لم تكن محرمة في الحرية.
قال الشيخ: من أصحابنا من قال: إذا طلقها ثنتين في الحرّية، ثم استُرق، فأراد أن ينكح تلك المرأة قبل أن تنكح غيره، فليس له ذلك؛ فإنه الآن عبد، وما مضى من الطلاق محسوب عليه، وقد سبقت طلقتان، فيجعل كأنهما سَبقتا في الرق.
والصّحيح الأول.
ومما يلحق بهذه المسألة: أن العبد إذا طلق امرأته طلقةً واحدة، ثم عَتَقَ، فيملك عليها طلقتين في الحرّية، وبمثله لو طلق طلقتين، ثم عَتَقَ فالذي ذكره الأصحاب بأجمعهم أنه لا ينكحها حتى تنكح غيره.
قال الشيخ: رأيت لبعض أصحابنا وجهاً غريباً أنه إذا عتق، فله أن ينكحها على طلقة، وهذا قد يخرّج على الوجه الذي حكيناه في الحرّ الذمّي إذا طلق طلقتين ثم استرق، فإن قلنا: الاعتبار برقّه في الحال، فلا ينكحها. فنقول: الاعتبار بالحرية الطارئة، والحرّ يملك ثلاثاًً، وهذا بعيد جدّاً. ولكن حكى الشيخ الوجهين في المسألتين، وصرّح بالحكاية.
فرع:
9281- إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا دخلت الدار، فأنت طالق واحدةً، ثم قال لها قبل الدخول: إذا دخلت الدار، فأنت طالق ثنتين، فإذا دخلت الدار، طلقت ثلاثاً؛ فإن مضمون اليمينين يقعان معاً.
ولو قال لغير المدخول بها: "أنت طالق وطالق"، فلا تلحقها إلا الطلقةُ الأولى.
ولو قال لعبد من عبيده: إذا مت، فأنت حرّ، ثم قال لآخَر هكذا: إذا مت فأنت حر، فإذا مات لم يقدّم المذكور أولاً بالحرية وإن قَدّم ذكرَه، فهذا نظير تعليقين متعاقبين.
ولو قال في مرضهِ: "سالم حرّ وغانم حر" فسالم مقدم؛ فإن العتق ينفذ فيه قبل التعبير عن غانم، وهذا نظير ما لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق، ولو قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، فطلقها، وقعت المنجّزة، ولم تقع الأخرى بعدها؛ فإن المنجزة متقدمة، وقد أوضحنا هذا في الأصول.
ولو قال: مهما أعتقت سالماً، فغانم حرّ، فإذا أعتق سالماً، فيكون عتقه مقدّماً على عتق غانم عند ضيق التركة.
9282- ولو قال لغير المدخول بها: "إذا طلقتك، فأنت طالق مع الطلقة المنجزة" ثم طلقها، فهل يقع الطلقةُ الأخرى عليها؟ فعلى وجهين ذكرهما رضي الله عنه:
أحدهما: يقعان؛ لاجتماعهما واقترانهما.
والثاني: لا يقع إلا المنجّزة؛ فإنه غاير بينهما في اللفظ.
قال: وكذلك اختلف أصحابنا في أنه لو قال: إذا أعتقت سالماً فغانم حر معه، ثم أعتق سالماً، فهل يقدّم عتقه على عتق غانم، فعلى وجهين.
وكل ذلك مما قدمنا أصوله، فإن أعدنا شيئاً مما سبق، فالقصد الإفادة لا الإعادة.
9283- ومما ذكره رضي الله عنه أنه لو قال لغير المدخول بها: "أنت طالق طلقة قبلها طلقة" قال: في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: لا يقع عليها شيء، وتدور المسألة، فإذا وقع عليها طلقة وهي غير ممسوسة، فلا تلحقها الثانية، وإذا لم تلحقها الثانية، لم تلحقها الأولى؛ فإن الارتباط مشروط بينهما.
والوجه الثاني- تلحقها طلقتان: أما الواحدة فبقوله: أنت طالق طلقة، وأما الثانية بقوله قبلها طلقة، فيلغو قوله: "قبلها" فيكون كما لو قال: أنت طالق الشهر الماضي، فكأنه جمع عليها طلقتين.
وهذا ضعيف لا اتّجاه له.
والوجه الثالث: أنه تلحقها طلقة واحدة، وهو المشهور نقلاً وتعليلاً، وسرّ الدّور في هذه المسألة قد ذكرته فيما تقدّم، وأوضحت أن هاتين الطلقتين تقعان على المدخول بها بدفعتين في زمانين، وكيف وقوعهما وترتّبهما، فلا نعيد ما سبق.
والذي زدناه الوجه الذي حكاه الشيخ في وقوع الطلاقين على غير المدخول بها.
فرع:
9284- إذا علق العبد ثلاث طلقات بصفة، فقال لامرأته: إن دخلتِ الدار فأنت طالق ثلاثاًً، فعتَقَ العبد أولاً، ثم وجدت الصفة بعدُ، فقد اختلف أصحابنا اختلافاً مشهوراً، فذهب بعضهم إلى أنه لا يقع إلا طلقتان، فإنه كان لا يملك غيرهما حالة التعليق، وكان تعليقه للثالثة بمثابة تعليق الطلاق قبل النكاح.
والوجه الثاني- أن الثالثة تقع؛ فإنه كان مالكاً لأصل النكاح، والطلاق تصرّفٌ فيه. والأقيسُ الوجه الأول.
وإذا قال الرّجل لأَمته: إذا علقت بمولود بعد لفظي هذا، فهو حرٌ، فالولد الجديد إذا أتت به هل تنفذ فيه الحرية؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا ينفذ؛ لأنه لم يكن مالكاً لذلك المولود حالة التعليق؛ إذ شرط كون الشيء مملوكاً أن يكون موجوداً.
والثاني: ينفذ؛ نظراً إلى المِلْك في الأصل.
9285- ولو قال العبد لزوجته: إذا مات مالكي، فأنت طالق طلقتين، وقال السيد لذلك العبد: إذا مت، فأنت حرّ، فمات السّيد، وحصلت الحرية، قال ابن الحداد: يقع طلقتان، ويملك الرجعة، وعلّل فقال: لأن الطلاق وقع بعد الحرية.
قال الشيغ: جوابه في المسألة صحيح، وتعليله باطل؛ فإنه قال: وقع الطلاق بعد الحرية، وليس كذلك، بل وقعا معاً؛ فإنهما عُلِّقا بالموت على وجهٍ واحد، فلا معنى لتقدم الحرية على الطلاق، وإذا وقعت الطلقتان في الحرية، اقتضى وقوعُهما فيها استعقابَ الرّجعة، وليس كما لو وقعا في الرق.
وحكى الشيخ عن بعض الأصحاب وجهاً بعيداً أنها تحرم عليه؛ لأن الحرية لم تتقدم على الطلاق. وهذا على نهاية الضّعف.
وإذا فرعنا على ما أفتى به ابن الحداد، وهو المذهب الذي لا يجوز غيره، فلو قال العبد لزوجته: إذا مات سيّدي، فأنت طالق في آخر جزء من حياته، وقال السيد: إذا مت، فعبدي هذا حرّ، فالطلاق يقع في زمان الرق، ولا رجعة؛ فإن الرّجعة لا تثبت بعد الطلاق، وإنما تثبت حيث تثبت مع الطلاق، ومعنى وقوع الطلاق في الرق وقوع الحرمة الكبرى، وهذا يناقض ثبوتَ الرجعة لا محالة، وهذا ذكرناه على وضوحه؛ ليقطع وهمَ من يظن أن وقوع الطلاق يستعقب الرجعة، وقد يطلق الفقهاء ذلك، وهو تجوّز منهم، والتحقيق ما نصصنا عليه.
فرع:
9286- لو تزوج الرجل بجارية أبيه، وعلّق طلاقها بموت الأب، فإذا مات، لم يقع الطلاق على ظاهر المذهب؛ لأن الملك يحصل في الرقبة، وحصوله يتضمّن انفساخ النكاح، فلو وقع الطلاق، لكان واقعاً على مملوكته، وهذا محال.
وأبعد بعض أصحابنا، وقال: يقع الطلاق.
وهذا وهمٌ وغلط، وإنما تخيّله من صار إليه؛ من حيث اعتقد أن الملك يحصل مع الموت، والانفساخُ يترتب عليه، كما يشتري الرجل من يَعْتِق عليه، فيملكه في لحظة، ثم يعتِق عليه، فظنّ ظانّون أن الانفساخ مع الملك كذلك يكون، وليس الأمر كذلك؛ فإن الانفساخ يحصل مع الملك، والملك مع النكاح يتعاقبان تعاقب الضّدين، وليس كما وقع الاستشهاد به؛ فإنا قدّرنا ملك القريب اضطراراً ليصحّ العقد، وهاهنا لا ضرورة إلى مناقضة الحقائق والقياسِ، ولا تناقض في الحكم بالملك والفسخ جميعاًً؛ فإن الملك سيبقى بعد الانفساخ مطرداً.
وقد قال أبو إسحاق المروزي: من اشترى قريبه، حصل الملك والعتق معاً.
وزعم أن موجب العتق الملك، وموجب الملك العقد، وقد وقع الموجبان معاً، ثم زعم أنه لا يمتنع ثبوت حكمين نقيضين يقتضيهما القياس، وإنما الممتنع وجود ضدّين حساً ووقوعاً.
وهذا على نهاية السقوط؛ فإن التناقض غير محتمل شرعاً وعقلاً.
وما ذكرناه فيه إذا لم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين، فالجواب على ظاهر المذهب ما ذكرناه؛ لأن الدين لا يمنع الميراث على الصحيح من المذهب، وقال الإصطخري: الدّين المستغرق يمنع الميراث، وعلى هذه الطريقة يقع الطلاق؛ لأنها لا تنتقل بالموت إليه.
فرع:
9287- إذا قال لامرأته: أنت طالق مع أول موتي، أو مع موتي، أو قال: أنت طالق مع انقضاء عدتك، فالمذهب أنه لا يقع الطلاق؛ فإنه جعل وقوع الطلاق مقارناً بحالة لا يتصوّر فيها نكاح، وإنما يقع الطلاق في وقت يفرض فيه النكاح لولا الطلاق، فصار كما لو قال: أنت طالق بعد موتي، أو بعد انقضاء عدتك، والمخاطبةُ رجعية.
ولو قال: أنت طالق مع آخر جزء من عدتك، فقد ذكر الأصحاب وجهين في وقوع الطلاق، ومنْعُ الوقوع ضعيف ساقط، ولا تعلق لاشتراط كون محل الوقوع محبوساً.
وحكى الشيخ عن الخِضْري أنه قال: إذا قال: أنت طالق مع موتي أوْ مع انقضاء العدة، يقع الطلاق، وهذا خرجه على القول عن (الإملاء) فيه إذا قال لامرأته وهي حامل بولدين: كلما ولدت ولداً، فأنت طالق، فإذا ولدت الولد الأول طَلَقت، وإذا ولدت الثاني، لم تَطْلُق بالولادة الثانية، وتنقضي عدتها على الصحيح المنصوص عليه في الجديد.
وقال في (الإملاء): يلحقها طلقة ثانية وتستقبل العدة بالأقراء، ونحن نعلم أن العدة تنقضي بوضع الولد، والطلاقُ المعلق بالولادة يقع مع انقضاء الولد، فيقع الطلاق إذاً مع انقضاء العدة، فخرجت المسألة في الموت والتعليق بالانقضاء على قولين.
قال الشيخ: القول المذكور عن (الإملاء) في نهاية الضعف، ولا استقامة له في القياس، فهو ممّا لا يفرّع عليه، والتخريج على الضعيف يقود المخرِّج إلى مقاربة مخالفة الإجماع.
فرع:
9288- إذا نكح امرأةً حاملاً من الزنا، فقد ذكرنا أن النكاح يصحّ، وفي حلّ الوطء وجهان: أصحهما- أنه لا يحرم. فلو قال لها الزوج-وهي حامل من الزنا وقد وطئها-: "أنت طالق للسُّنة" قال ابن الحداد: لا يقع الطلاق أصلاً؛ فإنه وطئها في طهر ووجود الحمل وعدمه بمثابةٍ، وقد جرى الوطء فكان الطلاق في طهر جامعها فيه.
ولو كان الحمل من الزوج، ووطئها بعد ظهور الحمل، ثم طلقها للسُّنة، فيقع الطلاق، فكأنا لا نجعل للحمل أثراً.
وممّا يتعلق بذلك أنها لو كانت ترى الدم وهي حامل من الزنا، وقلنا: الحامل تحيض: فلو قال في زمن الدَّم: أنت طالق للسُّنة، فلا يقع الطلاق لمكان الدم، وهي كحائل رأت الدّم.
ولو كان الحمل من الزوج، وكانت ترى دماً، وقلنا: إنها تحيض، فقال لها في زمان الدم الموجود في الحبل: أنت طالق للسُّنة، ففي وقوع الطلاق وجهان مشهوران ذكرناهما، والفرق أنا لا نجعل للحمل من الزنا حكماً أصلاً.
وكان شيخي يقول: على هذا القياس يجب أن نقطع بأنّ الحامل من الزنا تحيض، وهذا فيه نظر؛ فإن اختلاف القول في أن الحامل هل تحيض أم لا؟ أمرٌ متعلق بأن وجود الحمل هل يَنفي الحيضَ حكماً؟ وهذا يستوي فيه الولد النسيب والدّعي.
فرع:
9289- العبد إذا نكح امرأة وطلقها طلقتين، وتبين أن سيده قد أعتقه، ولم يدر أن العتق كان قبل الطلاق، أو الطلاق كان قبل العتق، فإن كان العتق مقدماً، فلا شك في ثبوت الرجعة، وإن كان الطلاق متقدّماً، فقد حَرُمَت حتى تنكح زوجاً غيره.
وإذا أشكل الأمر، ولم يَدْرِ، واتفق الزوجان على الإشكال، قال ابن الحدّاد: تحرُم حتى تنكح غيره، فإنا استيقنا رقّه، وعرفنا وقوع الطلاق، والأصل أن العتق لم يكن قبل الطلاق، وقد وافقه معظم الأصحاب.
وذهب بعضهم إلى أن الرّجعة ثابتة؛ فإن الأصل أن تحريم العقد لم يحصل، فلا نقضي به إلا بثبت، والأول هو المذهب.
فأما إذا اختلف الزوجان فقال الزوج: أُعتقت أولاً، ثم طلقتُ، وقالت الزوجة: طلقتَ أولاً، ثم عَتَقْت؛ فقد حرمتُ عليك. فإن اتفقا في وقت العتق، واختلفا في وقت الطلاق، مثل أن يتفقا على أن العتق كان يوم الخميس، وقال الزوج: إنما طلقتُ يوم السبت، وقالت المرأة: بل يوم الأربعاء قبل الخميس، فالقول في هذه الصورة قول الزوج؛ فإن المطلِّق هو الأصل، والطلاقُ يومَ الأربعاء إليه، فإذا نفاه، انتفى.
وإذا اتفقا على وقت الطلاق، وأنه يوم الخميس، واختلفا في وقت العتق، فقال الزوج: كان العتق يوم الأربعاء، والطلاق بعده. وقالت المرأة: لا بل كان العتق يوم الجمعة، فالقول في هذه الصورة قولها، فإن الأصل دوام الرق يوم الأربعاء.
ولهذا نظير في الرجعة سنذكره، ونعيد هذه المسألة وأمثالَها، إن شاء الله، ونذكر ضابطاً في المذهب جامعاً.
فرع:
9290- إذا قال لامرأته: أنت طالق يوم يَقْدَم فلان، فقدم وقت الظهر، فإنها تطلّق. ومتى تطلق؟ فعلى قولين مخرّجين:
أحدهما: أنها تطلق عقيب القدوم، ولا يتقدم الطلاق على القدوم.
والقول الثاني- أنه إذا قدِم، بان لنا أنه وقع الطلاق مع أول الصّبح؛ فإن اسم اليوم يتحقق ذلك الوقت، وابن الحداد فرّع على قول التبيّن، وله أصل مشهور في النذور، سيأتي مشروحاً، إن شاء الله.
فلو ماتت امرأته ضحوةً، أو خالعها، ثم قدِم فلان وقت الظهر، والطلاق معلَّق بقدومه ثلاثٌ. فإن قلنا: يقع الطلاق عقيب القدوم؛ فلا يقع في هذه الصورة شيء؛ فإنه قدم وهي ميّتة، أو مختلعة.
وإن قلنا بالتبين، تبيّن لنا عند قدومه أنها ماتت مطلقةً، وأن الخلع جرى بعد وقوع الثلاث، ولا يكاد يخفى تفريع ذلك في العتق.
فرع:
9291- إذا قال لامرأته المدخول بها: "أنت طالق واحدة، بل ثلاثاًً إذا دخلت الدار" فلا شك أن الثلاث لا تقع ما لم تدخل الدار، ولكن هل تقع واحدة؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ:
أحدهما: أن التعليق يرجع إلى جميع ما تقدّم، فما لم تدخل الدار لا يقع شيء؛ فإن الشرط ينعكس على جميع ما تقدّم. ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق واحدة بل ثلاثاًً، لا يقع شيء حتى تدخل، فليكن الأمر كذلك إذا تأخر التعليق.
والوجه الثاني- وهو اختيار ابن الحداد أن الطلقة الأولى تقع، وما ذكره بعدَ (بل) هو المعلق بالدخول؛ فإن (بل) تَضَمَّنَ قطعاً لكلام عن كلام على سبيل الاستدراك.
ولو كانت المرأة غيرَ مدخول بها، فقال: "أنت طالق واحدةً بل ثلاثاًً إن دخلت الدار"، فإن قلنا: جميع الطلقات تتعلق بالصّفة، فلا تطلق في الحال. ثم إذا دخلت الدار، وقعت طلقة وفاقاً، وهل يقع الباقي؟ فعلى وجهين حكيناهما في مواضع، وهو كما لو قال لغير المدخول بها: إذا دخلت الدار، فأنت طالق وطالق، وهذا يجري في كل طلاقين في لفظين مقتضاهما الوقوع معاً، وإن قلنا: الطلقة الأولى لا تتعلّق بل تتنجز، فتبين بالطلقة الأولى، ولا تلحقها الأخرى إذا دخلت؛ فإنها بائنة، ولو نكحها فدخلت، لم يعد الحِنث؛ فإن التعليق وقع بعد البينونة حيث انتهينا إليه.
وحكى الشيخ وجهاً عن بعض الأصحاب أن هذا يخرّج على عَوْد الحنث، ولولا عِظم قدر الشيخ، لما نقلت هذا الوجه.
فرع:
9292- إذا قال لامرأته: إن دخلت الدّار طالقاً فأنت طالق، أو قال: أنت طالق إن دخلت الدار طالقاً، فإن دخلت الدار وما كان طلقها قبل الدخول، فلا يقع بالدخول طلاق؛ فإنه علّق الطلاق على صفتين إحداهما دخول الدار، والثانية أن تدخلها طالقةً، وهذا يبتني على أن الطلاق المعلّق بالصفة يترتب على الصفة، ولا يقع معها. وقد كرّرت هذا مراراً، ونبهت على ما فيه من الإشكال، ثم أوضحت استمرار اتفاق الأصحاب في التفريع. ولو كنا نقول: يقع الطلاق المعلّق بالدخول مع الدخول، لكنا لا نوقع الطلاق أيضاًً؛ فإن قوله: إن دخلت الدار طالقاً يقتضي أن تكون طالقاً بغير الدخول حتى يتعلقَ الطلاقُ بكونها طالقاً مع الدخول، ويستحيل أن يكون الطلاق المعلق هو الطلاق الذي علق به الطلاق، واقتضاء اللفظ التغاير الذي ذكرناه بيّن لا إشكال فيه.
فرع:
9293- إذا نكح الرّجل أمةً، ثم قال: إن اشتريتك، فأنت طالق ثلاثاًً، وقال مالكها: إن بعتكِ، فأنت حرّة، فإذا باعها عَتَقت في زمان خيار المجلس.
قال ابن الحداد: ويقع الطلاق؛ فإن الشراء قد وجد. قال أصحابنا: هذا تفريع منه على أن الملك في زمان الخيار للبائع.
فإن قلنا: الملك بنفس العقد ينتقل إلى المشتري، فينفسخ النكاح بالملك على المشهور، ولا يقع الطلاق، فإن قيل كيف ينتقل الملك إليه بعد نفوذ عتق البائع؟ قلنا: لما صح البيع، فمن حكم صحته نقل الملك على هذا القول، وهو كما ذكرناه في شراء من يعتِق على المشتري؛ إذ لولا ذلك، لما انعقد العقد على القول الذي عليه نفرع.
فرع:
9294- إذا قال لامرأته: إن كان أول ولدٍ تلدينه ذكراً، فأنت طالق واحدة، وإن كان أول ولدٍ تلدينه أنثى، فأنت طالق ثلاثاًً، فولدت ذكراً وأنثى، ولم يخرجا معاً، ولكن أشكل المتقدم، فلا يقع إلا طلقة واحدة، هكذا قال أصحابنا أخذاً بالمستيقن، وهذا واضح.
ولو خرجا معاً دفعة واحدة، قال الشيخ: ما ذهب إليه معظم الأئمة أنه لا يقع الطلاق أصلاً؛ فإنه علق طلقةً بأن يخرج ذكرٌ أولاً، وثلاثاًً بأن تخرج الأنثى أولاً، فإذا خرجا معاً، لم يتحقق الأوّلية في واحد منهما.
قال الشيخ: لو قلت: وقع الثلاث، كان محتملاً؛ فإن الأول هو الذي لا يتقدمه شيء، وليس من ضرورة الأول أن يستأخر عنه شيء، والدليل عليه أنه لو قال لها: إن كان أوّل ولدٍ تلدينه ذكراً فأنت طالق، فولدت ذكراً، ولم تلد سواه في عمرها، فيقع الطلاق؛ فعلى ذلك يجوز أن يقال: الذكر: لم يتقدمه أنثى، والأنثى لم يتقدمها ذكرٌ.
قال الشيخ: عرضت ذلك على القفال، فقال: المسألة محتملة.
والمذهب ما قدّمناه؛ لأن الرجل لو قال لعبديه: من جاء منكما أولاً، فهو حرٌّ، فلو جاءا معاً، لم يعتِقْ واحد منهما، هكذا ذكر الأصحاب، ولا يجوز أن يُتَخيّل في هذه المسألة خلاف، فإنه علق العتق على السّبق، ولا سبق إذا جاءا متساوقين، وليس كما إذا ولدت ولداً واحداً؛ فإنه لم يتعرّض في تلك المسألة لولدين وتقدير أولية فيهما.
فرع:
9295- إذا نكح جارية أبيه، أو أخيه، ثم قال: إذا مات سيدك، فأنت طالق، فإذا مات، فملكها الزوج، أو ملك بعضها-على ما يقتضيه التوريث- فلا يقع الطلاق، بل ينفسخ النكاح.
قال ابن الحداد: هذا هو الصحيح.
ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق، وقد قدمت هذا في الأصول.
ولو قال السيد لها: إذا متُّ، فأنت حرّة وقد سبق من الزوج التعليق كما ذكرنا، فمات، وهي خارجة من الثلث؛ فيقع الطلاق لا محالة، ولو علق الزوج الطلاق، فقال السّيد: إذا متّ، فأنت حرّة بعد موتي بشهر، فإذا مات، فتبقى تلك مملوكةً إلى شهر، والتفريع على ما اختاره ابن الحدّاد، وهو أن الفسخ أولى بالتنفيذ من الطلاق، وفي هذه الصورة في وقوع الطلاق وجهان مبنيان على أن الملك فيها إلى أن تعتق لمن؟ وفيه وجهان:
أحدهما: أن الملك للوارث.
والثاني: أنه تبقى على ملك الميت إلى أن تَعتِق، فعلى هذا يقع الطلاق، ولا ينفسخ النكاح، وإن قلنا: الملك للوارث، ففي الانفساخ وجهان:
أحدهما: أنه ينفسخ، وهو الأصح لحصول الملك.
والثاني: لا ينفسخ؛ لأن هذا ملك تقديري، ثبت لانتظام كلام، وإلا فلا حقيقة له، ولا يُفضي إلى مقصود.
فرع:
9296- إذا قال: أنت طالق أكثرَ الطلاق، فتطلق امرأته ثلاثاً؛ فإن الأكثر صريح في أقصى عدده، والكثرة مُصرِّحة بمعنى العدد، ولو قال: أنت طالق أكبرَ الطلاق، ولم ينو عدداً، فلا يقع إلا واحدة؛ لأن الكِبَر لا يُنبىء عن العدد، وكذلك لو قال: أعظم الطلاق، أو قال: أنت طالق ملءَ الأرض أو ملءَ العالم، فلا يقع بمطلق اللفظ إلا طلقة، ولو قال: أنت طالق ملءَ هذه البيوت الثلاثة، فهذا يقتضي تعدّد الطلقات وكذلك إذا قال: أنت طالق ملءَ السموات.
فرع:
9297- قال ابن سريج إذا قال لامرأته: أنت طالق هكذا، وأشار بأصبع واحدة، فهي طلقة، وإن أشار بأصبعين، فطلقتان، وإن أشار بثلاث، فثلاث.
هذا إذا قال: (هكذا)، وأشار إلى أصابعه.
فإن قال: أنت طالق، ولم يقل: (هكذا) ولكن أشار بأصابعه، فلا نحكم بوقوع الثلاث ما لم ينوها، وهذا بيّن، ولم أر فيه-إذا قال (هكذا) وأشار إلى أصابعه الثلاث- خلافاً، وذاك فيه إذا أشار إلى أصابعه إشارة تكون قرينةً مثبتةً للعلم، فلو لم تقم قرينةٌ، فلا وجه للحكم بالثلاث؛ فإن الرجل قد يعتاد الإشارة بأصابعه الثلاث في الكلام، فإذا لم يوضح ينظر إلى الأصابع أو ترديد نغمة على صيغة إلى أن يتبين الغرض، فلا نحكم بالوقوع، وما أجريناه من الكلام على القرائن من الأصول والأقطاب.
فرع:
9298- إذا قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت زيداً، فيقف وقوع الطلاق على الدخول والكلام.
ثم قال الأصحاب: يشترط ترتُّبُ الكلام على الدخول، حتى لو كلمتْ، ثم دخلتْ، لم تطلق؛ لأنه في الحقيقة علّق وقوع الطلاق عليهما عند الدخول بكلام، فكان هذا تعليقَ التعليق، والتعليقُ يقبل التعليق، كما أن التنجيز يقبل التعليق، وهذا كما لو قال لعبده: إن دخلت الدار، فأنت مدبّر، فالتدبير يقف على دخول الدار، ثم لا عتق حتى يموت السّيد بعد دخول العبد الدار، وليس كما لو قال: أنت طالق إن كلمت ودخلت، بشرط وجود الوصفين لا غير، لأن الواو للجمع خصوصاً في المعاملات.
هذا ما ذكره القاضي والأصحاب: أما المسألة الأخيرة، فسديدة، وأما المسألة الأولى، ففيها نظر؛ فإنه ذَكَر صفتين من غير عاطف، فالوجه الحكم بتعلّق الطلاق بهما، فأما الترتيب، فلا معنى للحكم به.
ولو قال: إن دخلتِ الدار إن كلمتِ زيداً إن أكلتِ رغيفاً، فأنت طالق، فالطلاق يتعلق بوجود هذه الصفات، والحكمُ بترتّب بعضها على بعض تحكُّمٌ، لا أصل له، فإن كان هذا مسلماً، فلا فرق بين أن يُقدِّم ذِكْرَ الطلاق وبين أن يؤخره. وإن كان ممنوعاً، فما قدمناه من الكلام كافٍ.
ولو قال: أنت طالق إن كلمت زيداً إلى أن يقدَمَ فلان، فالتأقيت راجع إلى الصفة، والتقديرُ: إن كلمته قبل قدوم زيدٍ، فأنت طالق، ولا يرجع هذا التأقيت إلى أصل الطلاق؛ إذ لو رجع إليه، لتنجز في الحال، كما لو قال: أنت طالق إلى شهرٍ، ثم إن كلّمتْه قبل أن قدِمَ زيد، طلقت، ولو لم تكلمه حتى قَدِم زيد، لم تطلق، ولا يضر التكلم بعدُ.
هذا معنى التأقيت.
فرع:
9299- لو قال: "إن دخلتِ الدار فأنت طالق" ثم كرّر هذا اللفظ ثلاثَ مراتٍ، فإن أراد التأكيد، فطلقة واحدة عند دخول الدار، وإن أراد التجديد، فإن دخلت الدار، طُلِّقت ثلاثاًً بدخلةٍ واحدة.
ولو قال: أردت عقد ثلاثة أيمان، حتى تطلقَ طلقاتٍ ثلاث بثلاث دخلات، فهذا لا يحمل عليه مُطلقُ الكلام بالإجماع؛ فإن اليمين الأخيرة حقها أن تنحل بأول دخلةٍ لتحقق الصّفة، وكذلك القول في الثانية والأولى، ولكن يُديّن فيما يقول باطناً، ولا وجه لقبوله ظاهراً.
فرع:
9300- إذا قال لأربع نسوة: أربعكن طوالق إلا فلانة، أو إلاّ واحدة على الإجمال، لغا الاستثناء، لأنه أوقع الطلاق على الأربع بجملتهن، فإذا قال: إلا فلانة، فقد قصد إبطال اللفظ في حقها، ورفْعَ مقتضاه بالكلية، فصار كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً لا تقع، أو ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، وليس كما لو قال ثلاثاًً إلا واحدة، فإن الاستثناء في الواحدة صحيح.
ولو قال: أربعكن إلا فلانة طوالق، فيصح الاستثناء في فلانة.
هذا ما أورده القاضي والمسألة مخيلة حسنة.
و يحتمل أن نقول: يصح الاستثناء؛ طرداً لقاعدة الاستثناء، فإنه إذا قال: أنت طالق ثلاثاً، فقد تعرّض لعدد الطلقات، ولو سكت عليه ولم يستثن، لكان الكلام مستقلاً في إيقاع الثلاث، ثم صح مع هذا استثناء الواحدة والثنتين بعد ذكر الثلاث، فلا فرق بين عدد الطلقات وبين عدد المطلّقات.
ووجه ما قاله القاضي أنه إذا قال: أربعكن طوالق إلا فلانة، فهذا اللفظ لا يستعمل كذلك في الاعتياد، كما لا يستعمل قول القائل ثلاثاًً إلا ثلاثاً، ويستعمل أنت طالق إن شاء الله، ولو تكلفنا فرقاً سوى ذلك، لم نجده، ولعلّ القاضي يقول: إذا قال: "هؤلاء العبيد الأربعة لك إلاّ هذا"، وأشار إلى واحد منهم، قال: الاستثناء باطل، ولعلّ ممّا يقوّي كلامَه ثبوتُ الكلام بالإشارة، وللإشارة أثر ووَقْعٌ في تثبيت الكلام. ولو قال: "لفلان أربعة أعبدٍ عليّ إلا عبداً" فالاستثناء صحيح.
فرع:
9301- إذا قال قائل للزوج: أطلّقت امرأتك؟ فقال: نعم، فقال:
ذكر صاحبُ التلخيص في ذلك قولين:
أحدهما: أن الطلاق يُحكم بوقوعه لقوله: (نعم) مع السؤال المتقدِّم، وإن لم ينو الطلاق.
والقول الثاني- إن الطلاق إنما يقع به إذا نوى، فإذا لم ينو شيئاً، لم يقع.
قال الشيخ: حكمَ بأن الطلاق يقع بهذه اللفظة مع النيّة في قولٍ، ويقع من غير نيّة في قولٍ، وجعل هذا إنشاءً للطلاق صريحاًً أو كناية.
ووافقه بعض أئمتنا، وقال: ما ذكره من القولين مبنيّ على قولين للشافعي فيه إذا قال الولي: زوجتك هذه، فقال في جوابه: قبلتُ، ولم يقل قبلت نكاحها، فهل ينعقد النكاح بذلك؛ بناء على ما تقدم من الإيجاب؟ فعلى قولين.
قال الشيخ: هذه الطريقة غير مرضية، فقوله (نعم) في جواب السؤال ينبغي ألا يكون صريحاًً في الطلاق ولا كناية، بل هو صريح في الإقرار بالطلاق، ثم إن كان صادقاً، فلا كلام، وإن كان كاذباً، فلا يقع به الطلاق باطناًً، وينفذ الحكم بالإقرار ظاهراً، ثم لا يجوز أن يكون في ثبوت الإقرار اختلافُ قولٍ، ومن قال لرجل بين يدي القاضي: ألي عليك ألف درهم؟ فقال: نعم، قضى القاضي بكونه مُقرّاً، ولو جرى ذلك بين يدي الشهود تحمّلوا الشهادة على صريح إقراره، فعلى هذا لو قال في جواب السؤال كما ذكرنا، ثم قال: أردت بذلك أني كنت نكحتها من قبل هذا، وطلقتها في ذلك النكاح السابق، فهذا ينزل منزلة ما لو قال لامرأته: أنت طالق الشهر الماضي، ثم فسّره بأنه كان طلقها في نكاحٍ سابق، وقد تقدم تفصيل ذلك.
9302- ولو قيل: ألك زوجة؟ فقال: لا. قال أصحابنا: هذا كذبٌ صريح لا يتعلق به حكم، وقال المحققون: هذا كناية في الإقرار، قال القاضي: عندي أن هذا صريح في الإقرار بنفي الزوجية، وقال رضي الله عنه: إذا أشار المشير إلى امرأةٍ، فقال لبعلها: هذه زوجتك، فقال: لا، كان ذلك تصريحاًً بالإقرار بنفي الزوجية.
ولو قيل له: أطلقت زوجتك، فقال: قد كان بعض ذلك، فلا نجعل هذا إقراراً بالطلاق؛ لأنه يحتمل التعليق، ويحتمل أنها كانت تُلاجّه وتخاصمه، وتسأل منه الطلاق، ولم يكن قد أوقع بعد، فعبّر عن بعض المفاوضة التي جرت.
ولو قال الدّلال لصاحب المتاع: بعتَ متاعك هذا بألف درهم من هذا الرجل، فقال: نعم، فلا يكون هذا إيجاباً بلا خلاف؛ فإنّ نعم خبرٌ يدخله الصّدق والكذب، فلا يصلح للإنشاء، وكذلك لو قال القابل: نعم، لم يكن ذلك منه قبولاً.
ولو قال الدلال لصاحب المتاع: بعتَ متاعك هذا بألفٍ من هذا الرجل، فقال: "بعتُ" فالوجه القطع بأن هذا لا يكون بيعاً، إذا لم يُعِد ذكرَ الثمن وخطابَ الطالب، ولم يأت بكلام ينتظم مبتدءاً، وليس كما لو قال المخاطب: قبلتُ؛ فإن قوله مع الإيجاب كلامان ينتظم أحدهما مع الثاني.
وإذا قال الدلال: بعتَ عبدك هذا من هذا الرجل، فقال: بعتُ، فيقع قوله جواباً للدلال، وما كان جواباً له لم يصلح أن يكون خطاباً لذلك الطالب، فلا يتجه في كونه جواباً إلا الخبر، وهو مضطرب في كونه إقراراً أيضاًً؛ فإن قرينة استدعاء الدلال شاهدة على أنه يبغي منه الابتداء.
وقال الأصحاب: لو قالت المرأة لزوجها؛ طلاق ده مرا، فقال: "دادم" لا يقع به شيء، لأن قوله: "دادم" لا يصلح للإيقاع.
قال القاضي: عندي يقع الطلاق؛ لأن المبتدأ يصير معاداً في الجواب، وهذا الذي ذكره مذهب أبي يوسف، وهو متجه؛ فإن السؤال مع الجواب يترتبان ترتب الإيجاب والقبول. فأما إذا قال الدلال: بع عبدك هذا بألف، فقال: بعت، فلا يستقل قول صاحب العبد: "بعت" كلاماً مبتدأ، ولا يترتب على قول الدلاّل جواباً.
فرع:
9303- لو قال: أنت طالق طلقةً عددَ التراب، وقعت طلقة واحدة؛ لأن التراب في نفسه جنس واحد. فإن قال: أنت طالق عدد أنواع التراب، طلقت ثلاثاً.
فرع:
9304- لو قال: أنت طالق طلقةً وطلقتين، وقع الثلاث، فإن قال: أردت إعادة تلك الطلقة الأولى في الطلقتين، وضمَّ أخرى إليها، قيل: يقبل ويقع طلقتان؛ فإن هذا محتمل.
والذي صار إليه الجمهور أنه تقع الثلاث؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه.
ولو قال بالفارسية: (تو از زني مَن بيك طلاق ودو طلاق هشته اي)، كان القفال يفتي بالثلاث قياساً على ما ذكرناه في العربية قال القاضي يقع عندي طلقتان، لأن الناس يقصدون منه إيقاع طلقتين، ومن أراد منهم الثلاث زاد، فقال: (بيك طلاق وبدو طلاق وبسه طلاق هشته اي).
فرع:
9305- إذا قال الزوج: طلّقي نفسك إن شئت ثلاثاً، فلابد في هذه المسألة من أن تشاء، هذا هو الذي عليه التفريع، فلو أنها شاءت، فتطلِّق نفسها، وتقول: شئت، وطلقت نفسي، ولا يكفي أن تقول: شئت؛ فإنه لم يعلّق الطلاق على مشيئتها بل علق تفويض الطلاق إليها على مشيئتها.
فلو قال: طلقي نفسك ثلاثاًً، فطلقت واحدة، وقعت الواحدة، وهذا الأصل مشهورٌ قدمنا ذكره.
فلو قال: طلقي نفسك إن شئت ثلاثاً، فلو أنها شاءت طلقةً واحدةً، وطلقت نفسها واحدة، قال صاحب التلخيص لا يقع شيء، وكذلك لو قال لها: طلقي نفسك إن شئت واحدة، فشاءت ثلاثاًً، فطلقت نفسها ثلاثاًً، فلا تقع واحدة منها.
وعلة ما ذكره أنه لم يملّكها الثلاث ولا الواحدة في المسألتين تمليكاً مجرداً، بل علّق التمليك بمشيئة موصوفة بصفةٍ، فإذا قال: طلقي نفسك إن شئت ثلاثاًً، فقد شرط في ملكها الطلاق أن تشاء ثلاثاً، وكذلك عكس هذا.
وذكر الأصحاب ما ذكره، ووافقوه.
ومسألتاه مصورتان فيه إذا خلّل ذكرَ المشيئة بين قوله: طلقي وبين قوله ثلاثاًَ أو واحدة، فلو قال: ثلاثاًَ إن شئت، أو طلقي نفسك واحدة إن شئت، فذكر المشيئةَ بعد ذكر العدد أو بعد ذكر الواحدة، فلو شاءت واحدةً وقد جرى التفويض في ثلاث، وقعت الواحدة.
ولو طلقت نفسها في مسألة الواحدة ثلاثاً، وقعت الواحدة، كما لم يكن في المسألة مشيئة، ولكن لابد من أن تذكر المشيئة. ومجرد تطليقها نفسها لا يكفي.
والفرق بين ذكر المشيئة قبل العدد، وبين ذكرها بعدَه أنه إذا قال لها: "طلقي نفسك إن شئت ثلاثاً"، فإذا لم تشأ ثلاثاًَ لم تتحقق مشيئتها؛ فإنه وصف مشيئتها بالتعلّق بالثلاث، فإذا لم تحصل المشيئة المشروطة، فلا يقع الطلاق، فمهما ذكر العدد بعد المشيئة فالعدد متعلق المشيئة، وكذلك لو قال: طلقي نفسكِ إن شئت واحدة، وليس كذلك قوله: طلقي نفسك ثلاثاًً إن شئت.
وهذا الذي ذكره الأصحاب ظاهر إذا كان الكلام مطلقاً.
وإن زعم أني أردت بقولي ثلاثاًً بعد المشيئة تفسيرَ الطلاق، لا وصفَ المشيئة، فهذا مقبول.
وإذا قال لها: طلقي نفسكِ إن شئت واحدةً، فطلقت نفسها ثلاثاًً، فهذا فيه احتمال عندي؛ فإن من شاء الثلاث فقد شاء واحدة؛ إذ الثلاث تنطوي على الواحدة، ويحتمل ما قاله الأصحاب؛ فإنه جعل الواحدة متعلَّق المشيئة، فلا يمنع أن تكون المشيئة موصوفة باتحاد المراد.
فرع:
9306- قد ذكرنا أنه إذا قال: إن حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشمس أو مطرت السماء، أو هبت الريح، أو ما أشبه ذلك، مما لا يتعلق باختيارٍ لها، ولا يتصور فيه منع ولا تحريض، فلا يقع الحِنث بذلك.
ولو زعم الزّوج أن الشمس قد طلعت فخالفته المرأة، فقال: إن لم تطلع، فأنت طالق، فيحنث بهذا في يمينه الأولى، وهو قوله: إن حلفت؛ فإنه قصد تصديق نفسه، وهذا من مقاصد الأَيْمان، فصار قوله يميناً على هذا الوجه.
فروعٌ تتعلق بالمعاياة وطرائف الأسئلة:
9307- إذا قال لها: إن لم تعرّفيني عدد الجوز الذي في هذا البيت، فأنت طالق، وكان البيت ممتلئاً جوزاً، وربما يضيق عليها الزمان الذي تجيب فيه، قال الأصحاب: الحيلة في نفي الطلاق أن تذكر المرأة عدداً يقدّر الجوز عليه، فإن استرابت زادت حتى تستيقن أنها ذكرت فيما ذكرت عدد الجوز، ولا يضرها الزيادة على العدد، فإنها وإن زادت، فقد ذكرت العدد المطلوب.
وهذا خطأ عندي إن ذكر في سؤاله التعريف؛ فإنّ اللفظ يشعر بأن غرضه أن تفيده المعرفة بعدد الجوز، والذي ذكرْته على مجازفةٍ ليس بتعريفٍ، وإنما فرض الفقهاء هذه الصورة فيه إذا قال لها: إن ذكرت لي عدد ما في البيت وإلا فأنت طالق، فإذا ذكرت عدداً على النسق الذي ذكرناه، فتكون ذاكرةً لذلك العدد فيما تذكره من الأعداد، ولكن الشيخ ذكر في المسألة التعريف.
ثم إذا فرضنا في الذكر-وهو الوجه- فلتأخذ من عدد تستيقنه مثل أن تعلم أن عدد الجوز في البيت يزيد على ألفٍ، ثم تذكر الألف، وتزيد ضمّاً للعدد إلى العدد، حتى تنتهي إلى مبلغٍ تستيقن أن ما في البيت لا يزيد عليه، ولا يتصور هذا ما لم تزد إلى أن يفرض وفاق، وهو نادرٌ في التصور.
ومما يجب الاعتناء به أنها إذا ذكرت الألف، كما صوّرناه، فقد ذهب القاضي إلى أنها تزيد على ما استيقنته واحداً واحداً، فلو قالت: ألفاً ثم ألفين، أو مائة ألفٍ، لم يكفها ذلك، إذ لو كان يكفيها ذلك، لذكرت عدداً على مبلغ عظيم أوّل مرّةٍ، فإذا قال الأئمة: تذكر ما تستيقن، ثم تزيد عليه، فلا وجه للزيادة إلا ما ذكرناه؛ فإنها سَتَمُرّ إذا كانت تزيد واحداً واحداً بالعدد الخاص بجَوْزِ البيت، وإذا لم تفعل هكذا، وذكرت مائة ألفٍ وعددُ ما في البيت ينقص عن هذا، فما ذكرت عدد الجَوْز في البيت، وإنما ذكرت عدداً عددُ ما في البيت بعضه.
ثم هذا الذي ذكرناه في اللفظ المطلق، فلو أراد الزوج بهذا تنصيصها على العدد المطلوب، فلا ينفع ما ذكرناه.
والذي يدور في خلدي من هذه المسألة أن مطلق هذا في العرف لا يُشعر إلا بالتنصيص، وقد نصّ الأصحاب على خلاف هذا، وكنت أودّ لو فرضت هذه المسألة فيه إذا نوى الزوج ما ذكرناه، ثم كان يقال: هل يزال ظاهر الإطلاق بنيّته، فعلى تردد.
9308- ولو قال: إن لم تعُدِّي الجوز الذي في هذا البيت في ساعة، فأنت طالق، ذكر أصحابنا وجهين:
أحدهما: أنها تأخذ من مبلغ تستيقنه، ثم تأخذ في الزيادة، كما ذكرناه فيه إذا قال لها: إن لم تذكري عدد الجوز.
ومنهم من قال: إذا كانت اليمين معقودة على العدّ، فلابد وأن تبتدىء من الواحدة، وتأخذ في الزيادة، حتى تنتهي إلى الاستيقان كما ذكرناه؛ فإن العدّ متضمّنه التفصيل من الواحدة إلى المنتهى، وليس كالذكر، ولم يذكر أحد من الأصحاب أن العدّ محمول على تولّي العدّ، فعلاً، وزعموا أن العدّ إنما هو العدّ باللسان.
ولست أرى الأمر كذلك؛ فإن من جلس نَبْذةً من بيتٍ فيه جَوْز، ثم أخذ يهذي ويذكر باللّسان أعداداً، فهذا لا يسمى عدّاً في الإطلاق، وإن حمل لفظُهُ عليه، كان تأويلاً، والنظر في أن التأويل المزيل للظاهر، هل يقبل؟ نعم، إذا قال: "إن لم تعدّي"، فرمقت الجوز، وأخذت تعدّ وترمق كل جوّزة، فهذا عدٌّ، وإن لم يوجد فعلٌ باليد، فأما قول اللسان، فلست أراه عدّاً.
9309- ولو قال- وقد خلط دراهم لامرأته بدراهمَ كانت في كفّه: إن لم تميّزي دراهمَك من هذه الدراهم، فأنت طالق. قال الأصحاب: المخلّص أن تميز الدراهم كلها تمييزاً عاماً، بحيث لا تبقي منها درهماً ودرهمين ملتصقين.
وكذلك إذا كانا يأكلان تمراً أو مشمشاً، فقال: إن لم تميزي نوى ما أكلت، فأنت طالق، فالطريق ما ذكرناه.
وهذا فيه نظر عندي، فإن نوى التنصيص في التمييز، فالذي ذكرناه ليس بمخلّص، وإن أطلق اللفظ، فالذي ذكره الأصحاب أن ما ذكرناه مُخلِّص.
ولست أرى الأمر كذلك إن كنا نأخذ المعاني مما تبتدره الأفهام، ولئن كان للفقه تحكم في حصر الصرائح أخذاً من التعبد والتكرّر في الشرع، فألفاظ المعلِّقين لا نهاية لها، وليس للصفات التي يذكرونها ضبط، فسبيل الكلام على الظواهر تنزيلها على ما يُفهم، وإنما يتميز الظاهر عن الكلام المتردد بشيء واحدٍ، وهو أن يفرض الإطلاق، ثم لا يفرض مراجعة المطلِق واستفسارُه، فما كان كذلك، فهو ظاهرٌ، والنص كذلك، غيرَ أن مُطْلِقَه لو ذكر له تأويلاً، لم يُقبل، ولم يُرَ له وجهٌ في الاحتمال، وأمثال هذه الألفاظ لا يستريب الفاهمون أن معانيها على خلاف ما وضعها أصحاب المعاياة، فالوجه وضعها مع تجريد القصد إليها على حسب ما يذكره الفقيه.
9310- ولو كان في فم المرأة تمرة، فقال الزوج: إن بلعتيه، فأنت طالق، وإن لفظتيه، فأنت طالق، وإن أمسكتيه، فأنت طالق، فالمخلِّص أن تأكل نصفه وتلفظ نصفه، ولا يحصل الحِنث بوجهٍ من الوجوه التي ذكرناها.
9311- ولو قال- وهي في ماءٍ جارٍ: إن مكثت فيه، فأنت طالق، وإن خرجت منه فأنت طالق.
قال الأصحاب: لو مكثتْ، لم تطلق، لأنّ الدُّفع من الماء التي تَلْقاها قد جرت وانحدرت، فلم تمكث فيه، ولم تخرج منه.
وهذا قريب من الفنون المقدمة.
فإن نوى الزوج الخروج من ماء النهر، فما ذكرناه ليس بمخلِّص، وإن خطر له ما ذكرناه، أمكن أن يقبل، وإن أطلق، ففيه نظر، وهذا من الأقطاب؛ فإن أمثال هذه الألفاظ لو ردّت إلى اللغة، فيمكن تنزيلها على ما ذكره الفقهاء، وإن ردّت إلى ما يفهم منها في الإطلاق، فالأمر على خلاف ما ذكروه، والحمل على موجب الفهم عند الإطلاق أوْلى.
هذا منتهى القول في هذه الأجناس.
9312- وإذا كانت على سلّم، فقال: إن نزلت من هذا السّلم، فأنت طالق، وإن زَنأتِ، فأنت طالق، وإن وقفت، فأنت طالق، فالوجه أن تطفر إن قدرت عليه، وإلا تُحْمل من السلم، أو يُضْجَع السلم وهي عليه، أو ينصب بجانب السُّلّم سُلَّم آخر حتى تتحول إليه.
ولست بالراغب في هذه الفنون، واللائق بهذا المجموع أن يبتنى على ما هو الوجه، وما ذكرته من نظر الناظرين إلى اللغة والإضراب عن المفهوم من الألفاظ.
ولو قال لامرأته: إن أكلت هذه الرمانة، فأنت طالق، فأكلتها إلا حبة، لم تطلق، وهذا سديد في اللغة والعرف، وقد يقول القائل: أكلتُ رمانة، وإن فاتته حبّة، ولكن للاحتمال فيه مجالٌ. وإذا اجتمعت اللغة وتردد العرف، فالحكم بوقوع الطلاق لا وجه له، ولا يعدُّ من قال: لم يأكل رمانةً إذا ترك حبّةً حائداً عن ظاهر الكلام.
ولو علق الطلاق بأكلِ رغيفٍ، فجرى الأكل فيه، وبقيت فُتَاتةٌ، قال القاضي: لا تطلق، واعتبر الفتاتة بحبات الرمانة.
والقول في هذا مفصل عندي، فإن كان ما سقط قطعةً محسوسةً وإن صغرت، فهي كالحبة من الرمانة، وأما ما دق مُدركه من الفتاتة، فما عندي أنه يؤثر في الحِنث والبر، وهذا عندي مقطوع به في حكم العرف إن كان على العرف معوّل في الأَيْمان.
وسمعت شيخي كان يقطع بهذا في الفتاوى.
والضبطُ لهذه الأجناس أن من سئل عن لفظة، فإن كان لا يدري معناها في اللغة، فلا يهجم على الجواب، ولكن من جوابه: إني أراجع في هذه من يعرف اللغة، وإن كان يعرف معناها في اللغة وأحاط بأنه منطبق على العرف، جرى في الجواب.
وإن جهل العرف، سأل عنه أهل العرف، وإن كان العرف متردّداً كان صغوه الأكثر إلى استبقاء النكاح.
وإن صادف العرفَ على خلاف اللغة في وضعها، كان واقعاً في المعاياة، والوجه عندي تحكيم العرف على اللغة، كما أوضحته وبينت مسلك الأصحاب، ولا يسوغ الميل عن جادّة الفقه، حتى تحلو المسائل في استماع العوام.
فروع في المكافأة والتعليقات بالصفات النادرة:
9313- وهي كثيرة الجريان في الخصومات الناشئة بين الزوجين، وأكثر ما تقع هذه المسائل فيه إذا بدأت المرأة، فواجهت زوجها بما يكرهه، ووصفته بصفةِ ذمٍّ، وقال الزوج: إن كنتُ كما قلتِ، فأنت طالق، فهذه المسائل تجري على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقصد الزوج تعليقاً على التحقيق.
والثاني: أن يقصد مكافأتها ليغيظها بالطلاق، كما غاظته بما أسمعته.
والثالث: أن يُطْلِق اللفظَ.
فإن قصد التعليق، فلابد من النظر في الصّفات: فإن تحققت، وقع الطلاق، وإن انتفت، لم يقع، وإن أشكلت، فالأصل أنْ لا طلاق، ثم كثيراً ما يجري في المهاترات، والإفحاش، والخنا في المنطق- صفاتٌ لا تكون، فيقع الناظر في التطلب، فالوجه الحكم بأن الطلاق لا يقع.
وأنا أذكر من جملتها واقعةً رُفعت في الفتاوى، وهي أن المرأة قالت لزوجها: يا (جهوذروى)، فقال في جوابها: إن كنت كذلك، فأنت طالق؛ فوقع المسْتَطْرِفُون وبَنُو الزمان في طلب هذه الصفة، فذهب بعضهم إلى الحمل على صفار الوجه، وسلك سالكون مسلك مخيلة الذل في خبطٍ لا أصفه، وكان جوابنا فيه: إن المسلم لا يكون على النعت المذكور، فلا يقع الطلاق، ولم أوثر ذكر ما فيه فحش، وفيما أوردته التنبيه التام للفطن.
وإن قصد الرجل بذلك مكافأتها، فاللفظ صريح في التعليق، ولكن إذا أراد الزوج مكافأةً، فلها وجه، والتقدير: إن كنت كذلك، فأنت طالق إذاً. ومما مهدته أن الاحتمال الخفي مقبول في وقوع الطلاق إذا أراده اللافظ.
وإن أطلق اللفظَ، فهو محمول عندي على التعليق، إلا أن يعم عرفٌ في المكافأة، فيجتمع وضع اللغة والعرف، وقد سبق الكلام فيه.
وقد رأيت كثيراً من المشايخ يميلون إلى المكافأة للعجز عن النظر في الصفات، وسبب ذلك أنهم حسبوا كلّ مذكورٍ كافياً. ومعظم بدائع الشتائم غير كائنة، فلا يقع الطلاق.
فرع:
9314- إذا قال: أنت طالق يوم يقدَم فلان، فقدم ليلاً، فالمذهب أن الطلاق لا يقع، فإنه لم يعلّق الطلاق على مجرّد القدوم، حتى ربطه بالوقوع في يوم، وذكر بعض الأصحاب وجهاً أن مطلق هذا يحمل على وقت القدوم، وهذا بعيد لا أعده من المذهب ومن أحكم الأصول إلى هذا المنتهى، لم يخف عليه دَرْكُ مثل هذا.
فرع:
9315- حكى العراقيون عن ابن سريج أنه قال: إذا قال الزوج لامرأته: إن لم أطلقك اليوم، فأنت طالق اليوم، فلا يقع الطلاق أصلاً؛ وذلك أنه ما دام اسم اليوم موجوداً، فيقدّر التطليق فيه، فلا يقع الطلاق. وإذا انقضى اليوم، فقد فات الإيقاع والوقوع جميعاً.
قال الشيخ أبو حامدٍ: وهذا هفوة، والوجه القطع بأن الطلاق يقع في آخر جزء من اليوم، ونتبين ذلك بعد انقضائه، والدليل عليه: أنه لو قال: أنت طالق إن لم أطلقك، فإذا مات ولم يطلقها، فيتضح لنا أنها طلقت قُبيل موته، وما ذكره ابن سريج يقتضي ألا يقع الطلاق، ولو هجم هاجم على ركوب هذا، لكان خارقاً للإجماع.
فرع:
9316- إذا قال لامرأته: إن خالفت أمري، فأنت طالق، ثم قال لها: لا تكلمي زيداً، فكلمته، لم تطلق؛ لأنها خالفت نهيه، ولم تخالف أمره.
ولو قال لها: إن خالفتِ نهيي فأنت طالق، ثم قال لها قومي، فقعدت، فقد ذهب الفقهاء إلى أن الأمر بالشيء نهي عن أضداد المأمور به، وقالوا على حسب معتقدهم: إذا قعدت، فقد خالفت نهيه، فيقع الطلاق، وقد أوضحنا في مجموعاتنا في الأصول أن الأمر لا يكون نهياً، ولا يتضمن نهياً، فلا يقع الطلاق إذاً.
ولو كنا نعتقد اعتقاد الفقهاء، لتوقفنا في وقوع الطلاق أيضاًً؛ فإن الأيْمان لا تحمل على معتقدات الناس في الأصول، وإذا قال لها الرجل: قومي، فلم يوجد منه نهي حتى يفرض تعلّق الطلاق بمخالفته، والطلاق لا يقع بالضِّمْن إذا لم يجر الوصف الذي هو متعلق الطلاق تحقيقاً.
فرع:
9317- إذا قال لنسائه: من أخبرتني بقدوم زيدٍ، فهي طالق، فأخبرته منهن واحدة، طلقت، صادقةً كانت أو كاذبةً.
وقال بعض المصنفين: لا يقع الطلاق ما لم تكن صادقة، وهذا فيه احتمال.
ولو قال: من أخبرتني أن زيداً قَدِمَ، فهي طالق، فأخبرته واحدة، طلقت، وإن كانت كاذبة، وإنما أوردنا هذا الفرع لحكاية هذا الفرق بين اللفظين، وهو حسن، فانتظم منه أنه إذا قال: من أخبرني بأن زيداً قد قَدِمَ فلا فرق بين الصّدق والكذب، وإن قال: من أخبرني بقُدومِ زيدٍ، فأخبرت واحدة كاذبةً، ففي المسألة وجهان، لم أقدّم ذكرهما.
فرع:
9318- إذا قال: أنت طالق بمكة، وأراد تعليق الطلاق على أن تأتي مكة وتطلّق حينئذ، فهذا محتمل، وإن قال: أردت التنجّيز، قَبِلْنا، ولم نتأنّق في إظهار وجهٍ من الوقوع.
وإن أطلق لفظه، فقد حكى شيخي وجهين في أنه هل يحمل على التعليق، أو على التنجيز، ففي المسألة احتمال، أما التعليق، فسابق إلى الفهم، وأما التنجيز، فسببه أنه ليس في اللفظ أداة تصلح للتعليق.
فرع:
9319- إذا قال لامرأته: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال: عجّلت تلك الطلقة المعلقة وجعلتها منجّزة، فإنها تقع في الحال.
ولو وُجدت تلك الصفة، ففي وقوع الطلاق وجهان ذكرهما شيخي، وحاصلهما يرجع إلى أن الطلاق المعلق هل يقبل التنجيز أم لا؟ وقد قدمت هذا في أول كتاب الخلع، ولكن رأيت هذين الوجهين للشيخ أبي عليّ، فأحببت نقلهما.
فرع:
9320- إذا قال: أنت طالق إلى حين، أو زمان، فإذا مضت لحظة وإن لطفت، حكمنا بوقوع الطلاق؛ فإن اسم الحين والزمان ينطلق عليه.
ولو قال لها: إذا مضى حِقَبٌ أو دهرٌ، فأنت طالق، قال الأصحاب: هذا كما لو قال: إذا مضى زمان أو حين، وهذا مشكل جداً؛ فإن اسم الدهر والحقب لا يقع على الزمان اللطيف، وإيقاع الطلاق بعيد مع حسن قول القائل هذا الذي مضى ليس بدهرٍ، وقيل: سُئل أبو حنيفة عن تعليق الطلاق بالدهر، فقال: لا أدري، وروجع مراراً فأصرّ عليه.
والذي أراه فيه أن العَصر عبارة عن زمانٍ يحوي أمماً، فإذا انقرضوا، فقد انقرض العصر، أو من قول الناس: انقرض عصر الصحابة. ومن كلام الأصوليين هل يشترط في انعقاد الإجماع انقراض العصر؟ هذا بيّن في معنى العصر، والحكم بوقوع الطلاق دون ذلك، أو في الزمن القريب بعيد عندي، وأما الدّهر، فإطلاقه على الزمان القريب بعيدٌ، بعد ما تمهّد من وجوب إمالة الفتوى إلى نفي الطلاق.
وهذه الألفاظ تُصوّر مطلقةً، وفيها يقع الكلام، وبحقٍّ توقّف أبو حنيفة في هذه المسألة، وفي القرآن ما يدل على أن الحين من الدّهر، قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان:1] وسُمي القائلون بقدم العالم دهريةً، وقد يطلق الدهر، ولا يراد به الزمان، وهو معنى تسمية الملحدة دَهْرية، فإنهم يضيفون مجاري الأحكام إلى الدّهر، وإلى هذا أشار الرسول عليه السلام، وقال: "لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر" وليس ينقدح لي في الدهر معنى إذا كان مطلقاً، وقرن بالمضي إلا الحمل على العصر، فإنه يقال مضى عصر الأكاسرة، وانقضى دهرهم، ولست واثقاً بهذا أيضاًً، والذي حكيته عن الأصحاب تنزيل الدهر والعصر منزلة الحين والزمان.
فرع:
9321- قال صاحب التقريب: إذا قال: أنت طالق اليوم إذا جاء الغد، فلا يقع أصلاً، فإنه علق وقوع الطلاق في اليوم على مجيء الغد، فلا يقع الطلاق قبل مجيء الغد، ثم إذا جاء الغد، فقد مضى اليوم، فلا يمكننا أن نوقع الطلاق في الزمان الماضي.
ولا يبعد أن يقال: يقع الطلاق إذا جاء الغد مستنداً إلى اليوم، كما لو قال: إذا قدم زيد، فأنت طالق قبل قدومه بيوم، فالمسألة مشكلة.
فروع ذكرها ابن الحداد من مسائل الخلع
9322- منها: إن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثنتين إحداهما بألف، فنقول: لا تخلو المرأة إما أن تكون مدخولاً بها، وإما ألا تكون مدخولاً بها، فإن كانت مدخولاً بها، فلا يخلو إما أن قبلت الألف أو لم تقبلها: فإن قبلت الألف، حكمنا بوقوع الطلقتين على الصحيح، وسنذكر فيها خلافاً في أثناء المسألة، إن شاء الله.
وإن لم تقبل الألف، فهل يقع طلقة واحدة أم لا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يقع شيء؛ فإنه ذكر عوضاً في مقابلة إحداهما، وجعل الأخرى تابعة لها، فإذا لم تقع التي هي بعوض، فلا تقع الأخرى.
والوجه الثاني- تقع واحدة من غير عوض رجعية؛ فإنّه علق إحداهما بعوض، ولم يعلق الأخرى بالعوض، فينبغي أن تقع، فلا تفتقر إلى القبول، قال الشيخ هذا هو القياس، واختار ابن الحداد الوجه الأوّل.
ثم قال رضي الله عنه، ولا خلاف أنه لو قال: أنت طالق ثنتين واحدة بألفٍ، والأخرى بغير شيء، فتقع تلك الواحدة من غير قبول، وحكي الوفاق في هذه الصيغة، وليس يبعد عندنا طرد الوجهين فيها أيضاًً تشبيهاً بالمسألة الأولى.
فإن قلنا: إنه لا يقع شيء أصلاً لو لم تَقبل، فإذا قبلت وقعتا جميعاًً.
وإن قلنا: إن طلقةً تقع من غير قبول، فعلى هذا كما قال الزوج ما قاله، حكمنا بوقوع طلقة رجعيةٍ، فإذا قبلت فيكون ذلك بعد وقوع طلقة رجعية، فإذا قبلت، فيكون ذلك اختلاعاً بعد وقوع طلقةٍ رجعيةٍ.
وقد اختلف المذهب في أن الرجعية هل يصح اختلاعها؟ فإن جوّزناه، فقد لزمها الألف وبانت، وإن قلنا: لا يلزمها المال أصلاً، قال الشيخ: فهل يقع الطلاق الثاني رجعياً مع الأوّل، فيقع طلقتان رجعيتان، فعلى وجهين:
أحدهما: لا يقع؛ فإن المال لم يلزم وهو ملازمٌ للمال.
والثاني: إنه يقع؛ فإن المرعي في وقوع الطلاق القبول، وقد جرى، فأشبه ما لو خالع امرأته المحجورة.
هذا كله إذا كانت المرأة مدخولاً بها.
9323- فإن كانت غير مدخول بها والمسألة بحالها، فإن قلنا: لا يقع طلقة من الطلقتين إلا بالقبول، فإن قبلت، صح الخلع ووقعتا جميعاًً.
وإذا قلنا: تقع طلقة مجّاناً، فتبين بها قبل أن تجيب، ولا يصح الخلع أصلاً، فلا حكم لقبولها، فإنه جرى بعد البينونة.
وفي المسألة مباحثةٌ نُطلع على لطفها وسرِّها، وذلك أنا إذا قلنا: لا يقع شيء إذا لم تقبل، فإذا قبلت، وقعت الطلقتان، فإحداهما تُقابل بالعوض والأخرى عريَّةٌ عن العوض، والطلاق المقابَل بالعوض في حق المدخول بها مُبينٌ، والطلاق الذي لا عوض معه، ولا يحصل استيفاء العدد به ليس بمُبين، فيقع طلاقان:
أحدهما: المبين ويقترن به طلاق على نعت الطلاق الرجعي.
9324- ولو قال لامرأته التي دخل بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم خالعها، طُلِّقت طلقةً بعوض، ولم تلحقها الطلقة المعلقة؛ فإنها لو لحقتها، لصادفت بينونةً، واقتران البينونة يمنع وقوع الطلاق، كما أن تقدّم البينونة يمنع استعقاب الطلاق، فكيف يقع طلاقان مختلفان أحدهما بمال والآخر عريٌّ عن العوض، فالطلاق المُبين ينافي وقوع الطلاق الذي لو انفرد، لكان رجعيّاً.
وإن قيل في جواب ذلك: لا يمتنع في الاجتماع هذا؛ فإن من طلق امرأته ثلاثاً، فلو فرضنا الاقتصار على طلقتين، لكانتا رجعيتين، والثالثة توقع الحرمة الكبرى، ثم لم يمتنع الاقتران.
وهذا لا يدفع بالسؤال، فإن الثلاث إذا جمعت، فحكمها تحريم العقد، ولا يتصف طلقة منها بكونها رجعية، بل حكم جميعها تحريم النكاح، والطلاق بالمال متميز عن الطلاق المقترن به صفةً وحكماً، فيقع الطلاق المقترن به مع البينونة، والواقع مع البينونة يصادف بائنة، وإذا صادف بائنةً، وجب ألا يمتنع وقوعه بعد البينونة.
فوجه الجواب إذاً أن نقول: إذا فرعنا على أن المرأة لو لم تقبل المال، لم يقع واحدة من الطلقتين، فاستحقاق المال يتعلق بالطلاقين، وإن أثبت أحدهما أصلاً والثاني تبعاً، فسبب وقوع التابعة ارتباطها؛ بالأخرى؛ من حيث إنها تتوقف على قبول المال توقف الأخرى.
هذا هو الوجه في الانفصال عن السؤال، وقد تركنا على الناظر فضلَ نظر، فلينظر، فقد مهدنا السبيل.
9325- ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً على ألف، فقالت: قبلتُ واحدة، أو قالت: قبلت واحدةً بثلث الألف، فلا يقع الطلاق أصلاً، وبمثله لو قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً بألف، فطلقها واحدة، استحق ثُلثَ الألف.
وقد قدمنا هذا في أصول الخلع، واستفرغنا الوُسع في الفرق.
قال الشيخ: رأيت لبعض أصحابنا تخريجاً في جنب الزوج، أنها إذا سألت ثلاثاًً بألف، وأجابها إلى واحدةٍ لم يستحق شيئاً، ولم يقع الطلاق قياساً على جانبها.
وهذا غريب جداً.
ولو قال لامرأته: أنت طالق على ألف، فقالت: قبلت واحدة بألفٍ، قال الشيخ: المذهب الصحيح أن الطلاق يقع على الجملة على ما سنفصله، إن شاء الله، وإنما قلنا ذلك، لأن التعويل في جانبها على قبول المال، وقد قبلت المال.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق لاختلاف الإيجاب والقبول، فأشبه ما لو قال الرجل: بعت منك هذين العبدين بألف، فقال المخاطب: قبلت البيع في هذا العبد بألف، فلا يصح البيع.
قال الشيخ ويحتمل أن نقول: يصح البيع في ذلك العبد بالألف، تخريجاً على أصلٍ وهو أنه لو قال لوكيله: بع عبدي هذا بألفٍ، فباعه بألفٍ وثوبٍ، فهل يصح ذلك؟ فيه قولان وتفصيلٌ طويل.
وهذا التخريج في البيع بعيد؛ من قِبل أن المخاطب في البيع إذا غير طريق المقابلة يخرج كلامه عن كونه جواباً، والمرأة إذا قبلت الألف، فتعرضها لعدد الطلاق وتوحيده لا معنى له، فإذا عرفت أن الأصح وقوع الطلاق، فكم يقع؟
اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يقع واحدة، فإنها قبلت واحدة، وهذا ظاهر كلام ابن الحداد. وإن لم يصرح به، وذلك أنه قال: قد أجابته وزادته خيراً، فلو كان يقع الثلاث، لما كان لما قاله ابنُ الحداد معنى.
والوجه الثاني- وهو اختيار القفال أنه يقع الثلاث، وهذا هو المذهب الصحيح، وذلك أن قبول الطلاق وتفصيله ليس إليها، وإنما إليها قبول المال فحسب، فمهما قبلت ما رامه الزوج من المال، وقع ما قاله الزوج من الطلاق، وما ذكره الشيخ أبو علي من التخريج في البيع ينقدح على رأي ابن الحداد، ولا خروج له على الأصح الذي اختاره القفال، ولا يخفى دَرْكُ ذلك على الناظر.
ثم إذا حكمنا بوقوع الطلاق، فالمذهب الصحيح أن الألف يلزم.
قال الشيخ: رأيت لابن سريج وجهاً أن العوض يفسد، والرجوع إلى مهر المثل، قال الشيخ، وهذا محتمل إن قلنا: يقع طلقة واحدة، بل هذا أوجه على هذا الوجه، وإن قلنا يقع الثلاث، ففساد العوض أبعد على ذلك.
9326- ثم ذكر ابن الحداد مسائل في الاختلاف نشير إلى بعضها؛ فإن أكثرها متعلق بكتب ستأتي، إن شاء الله.
فمما ذكره أن الرجل إذا كان تحته صغيرة وكبيرة، فخالع الكبيرة، على مال، وأرضعت الكبيرة الصغيرة، وأشكل الأمر، فلم ندر أيهما أسبق، ولا يخفى حكم سبق كل واحدٍ منهما لو ظهر، فلو سبق الرضاع، لغا الخلع، ولو سبق الخلع صح، ولا أثر للرضاع في الإفساد؛ فإن اختلف الزوجان، نُظر: إن اتفقا على وقت الخلع، وأنه جرى يوم الجمعة، واختلفا في وقت الرضاع، فقال الزوج: جرى يوم السبت، فقالت: بل يوم الخميس، فالقول قول الزوج، والأصل بقاء النكاح يوم الخميس، وإن اتفقا على أن الرضاع كان يوم الجمعة، واختلفا في الخلع، فقال الزوج: كان يوم الخميس وقالت: لا بل يوم السبت، فالقول قولها؛ فإن الأصل بقاء النكاح، وذكر من هذا الجنس مسائل ستأتي في كتبٍ، إن شاء الله، فلم نأت بها.
فرع:
9327- إذا قالت المرأة لزوجها، طلقني على ألف درهم طلقة، فقال: طلقتك بخمس مائة، فالمذهب أن الطلاق يقع بمجرد ذلك.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع لاختلاف الإيجاب والقبول، كما لو قال: بعني عبدك بألفٍ، فقال بعتكه بخمسمائة، قال الشيخ أبو علي: تصحيح البيع محتمل عندي، وقد قدمنا لذلك نظيراً.
ثم إذا وقع الطلاق، فكم يستحق الزوج؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ:
أحدهما: أنه يستحق تمام الألف؛ فإن تقدير المال إليها، والطلاق إليه.
والوجه الثاني- أنه لا يستحق إلا خمسمائة؛ فإنه رضي بها ولم يقبل الملك إلا فيها، والعوض لا يُمْلَك إلا بتمليك وتملك، ويحتمل عندي أن يُخرّج وجهٌ في المسألة في فساد العوض، والرجوع إلى مهر المثل.
وقد ذكر الشيخ لهذا نظيراً فيما سبق، ولم يذكره هاهنا.
ولو قال الرجل لآخر: إن رددت علي عبدي الآبق، فلك عليّ دينار، فقال المخاطب: أرده بنصف دينارٍ، فالوجه عندي القطع بأنه يستحق الدينار؛ فإن القبول لا أثر له في الجعالة، وقد ينقدح فيه خلاف أيضاًً؛ فإن قبول المال لا أصل له في الخلع أيضاًً، فالطلاق ثَمَّ كردّ العبد هاهنا، غيرَ أن الطلاق قولٌ شُرط اتصاله بالاستدعاء، فضاهى القبول ولبسه.
فرع:
9328- الزوج إذا ادعى اختلاع امرأته بألف درهم، فأنكرته، فأقام شاهداً وحلف معه، أو شاهداً وامرأتين، ثبت المال؛ فإن المال يثبت بما ذكرناه، أما الفرقة، فقد ثبتت بقوله.
ولو ادعت المرأة الخلع، فأنكره الزوج، فلابد من شاهدين؛ فإن غرضها إثبات الفرقة.
قال الشيخ: لو ادعى الرجل الوطء في النكاح، وغرضه إثبات العدة والرجعة، فلا يقبل منه إلا شاهدان إن أراد إقامة البينة.
ولو ادعت المرأة مهراً في النكاح، وأنكر الزوج أصل النكاح، فأقامت شاهداً ويميناً على النكاح، وغرضها إثبات المهر، قال الشيخ: لم يثبت شيء بخلاف ما قدمناه، وذلك أن النكاح ليس المقصود منه إثبات المال، وإنما المال تابع، والنكاح لا يثبت إلا بشهادة عدلين.
وكان شيخي يقول: يثبت المهر إذا قصدته. وما ذكره الشيخ أبو علي أفقه؛ فإنها وإن أثبتت مقصود المال، فمقصودها في النكاح غيرُ المال، والشاهد لهذا أن الشافعي لم يقض بانعقاد النكاح بحضور رجل وامرأتين، وهذا مشعر بأن النكاح من الجانبين لا يثبت إلا بعدلين، ولا يثبت شيء من مقاصده، وفي المسألة احتمال على حال.
وسأجمع بتوفيق الله في الدعاوى والبيّنات قواعدَ المذهب فيما يثبت بالشاهد والمرأتين، وما لا يثبت إلا بعدلين.
وإلى الله الابتهال في تصديق الرجاء وتحقيق الأمل، وصرف ما نتعب فيه إلى نفع المسلمين، وقد نجز ما حصرنا من مسائل الطلاق أصلاً وفرعاً، وستأتي بقايا في الرجعة، والإيلاء، والظهار، إن شاء الله.
9329- وقد كنا وعدنا أن نجمع في آخر الكتاب قولاً ضابطاً يجري مجرى التراجم المذكّرة، والكتابُ مشتمل على أحكام وتصرُّفٍ في ألفاظ، فأما الأحكام، فلها أصول، وقد تمهدت وتفرعت.
وأما الألفاظ، فالكلام فيها على أنحاء، منها: القول في الصريح والكناية، وقد مضى موضّحاً، ولا مَعْدِل عما هو صريح لفظاً ومحلاً وصيغةً إلا بجهات التديين، وقد انتظمت قواعد التديين.
والقول في الكنايات مضبوطٌ، فلا حاجة إلى إعادته، والصرائح تجري على صيغ، وصلات، وتكريرات تتردد بين التأكيد والتجديد وغيرها، فيلقى الفقيه أقساماً وربما يقتضي الإطلاق وقوعاً، وينتظم في إبداء تأويل يخالف الوقوع خلافٌ.
وربما يقع الوفاق في قبول التأويل، ويجري في الإطلاق خلاف. وقد قدمت مراتب المذهب فيه.
هذا كله تصرف في الصريح والكناية ومبانيها وصلاتها، ومحالّها.
9330- فأما ألفاظ المطلّقين في صفاتهم وتعليقاتهم، فلا ضبط لها، فكل ما يتفق فيه موجب اللسان والعرف، فالحكم به، ولا حيد عنه إلا بالتّدْيين على شرطه.
وإذا أشكل اللفظ في اللسان والعرف، فإن كان مثبَّجاً، فلغوٌ؛ فإن النية المجردة لا توقع الطلاق، وإن كان مردداً بين الاحتمالات، فليس إلا مراجعة صاحب اللفظ.
وإن اقتضى اللسان معنىً والمفهومُ في عرف الاستعمال غيره، فيختلف العلماء في أن المتبع اللسان، أو ما يسبق إلى الفهم في اطراد العرف، وعلى هذا التردد خرجت مسائل المعاياة، وذكرنا أن المختار اتباعُ العرف؛ فإن العبارات لا تُعنى لأعيانها، وهي على التحقيق أماراتٌ منصوبة على المعاني المطلوبة، وهذا منتهى المراد.